ضوابط التفسير اللغوي
 
 

بما أن التفسير اللغوي للقرآن الكريم لا يخرج عن مفهوم التفسير النقلي – أي: بما نُقل عن العرب من لغة – فإن شروطه تكاد تكون مطابقة لشروط التفسير النقلي، فلا ضرورة في إعادة ذكرها هنا.

غير أنه لا بدّ لنا من استعراض الضوابط التي وضعها علماؤنا للتفسير اللغوي للقرآن الكريم:

قال الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره، في سياق كلامه عن ضوابط التفسير اللغوي وهو يُحَذّرُ: (أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والاضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يُحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية، كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي).

(والنقل والسماع لابدّ له منه في ظاهر التفسير أولاً، لِيُتّقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط).

(والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء: 59]، معناه: آية مبصرة، فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية يظن، أنّ المراد به: أن الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بماذا ظلموا، وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم، فهذا من الحذف والاضمار، وأمثال هذا في القرآن كثير).

وقال العلامة ابن قيِّم الجوزية: (وينبغي أن يتفطّن هنا لأمر لا بدّ منه، وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل، ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام، ويكون الكلام به له معنىً ما، فإنّ هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن).

(للقرآن عُرفٌ خاص ومعانٍ معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها، ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه، فإنّ نسبة معانيه إلى المعاني، كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، كما أنّ ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأوضحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قُدَرُ العالمين، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به).

وقال الإمام ابن تيمية في الذين يفسرون القرآن بمجرد اللغة العربية: (قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به.. – حيث – راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يِريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام).

فهؤلاء إذا أرادوا أن يفسروا هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16]، فإنه لا يتأتى معهم المعنى المراد من السياق، وما يليق بحق الله تعالى من أنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء والمنكر، فلا يجوز قصر التفسير على معاني اللغة العربية فحسب، بل يجب اعتبار ما سيق له الكلام، وملاحظة المراد من النص، ثم التنبه لحق الله تعالى من تقديس ذاته العلية وتنزيه صفاته الكريمة، عما لا يليق بالحضرة الإلهية..

ومما يجب التنبه له أنه ربما يصادف المفسر في تفسير المعنى مخالفة لتقدير الإعراب، فما هو الواجب اتباعه في مثل هذه الحالة؟..

يجيب على هذه المسألة (الإمام ابن جنى في كتابه (الخصائص) باب: (بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى)، فيقول:

(فإذا مرَّ بك شيء من هذا عن أصحابنا، فاحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه، فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سَمْتِ تفسير المعنى، فهو ما لا غاية وراءه، وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى، تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصَحّحْتَ طريق تقدير الإعراب، حتى لا يشذّ شيء منها عليك، وإيّاك أن تسترسل فتُفْسِدَ ما تؤثر إصلاحه).

وقد أورد في باب (تجاذب المعاني والإعراب) أمثلة على ذلك من القرآن الكريم، فأرجح إليه فإنه مهم في موضوعه...

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الخصائص: الإمام ابن جني.

- الجامع لأحكام القرآن: القرطبي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم