قيمة النحو والإعراب في التفسير
 
 

لإدراك قيمة علم النحو والإعراب في تفسير القرآن الكريم، لا بدّ لنا من استعراض المعاني اللغوية و الاصطلاحية لهذين اللفظين: (النحو)، و(الإعراب):

أمّا النحو:

قال الإمام ابن دُرَيْد في كتابه (الاشتقاق):

(واشتقاق (نحو) من قولهم: نحوتُ الشيءَ، أنحوه نحواً، إذا قصدتُه، ومنه: النحو في الكلام، كأنّه: قَصْدٌ للصواب).

وقال الإمام ابن منظور في كتابه (لسان العرب):

(النحو: إعراب الكلام العربي، والنحو: القصد والطريق.. نحاه ينحوه، ينحاه نحواً وانتحاه، ونحو العربية منه؛ إنّما هو انتحاءُ سَمْتِ كلام العرب في تصرّفه، من إعراب وغيره، كالتثنية والجمع، والتحقير والتكبير، والإضافة والنسب وغير ذلك، لِيَلْحَقَ مَنْ ليس مِنْ أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، أو إنْ شذَّ بعضهم عنها رُدَّ به إليها).

هذا.. من حيث المعنى اللغوي.. أمّا من حيث المعنى الاصطلاحي، فهو لا يبعد عما ورد في معناه اللغوي: فقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه (الحاوي للفتاوي) في تعريفه فقال:

(حَدُّ النحو في الاصطلاح: عبارة عن العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب؛ أعني: أحكام الكَلِم في ذواتها وما يعرض لها بالتركيب.. فأحكام الكَلِم في ذواتها: هو المبحوث عنه في التصريف، وما يعرض لها بالتركيب: هو المبحوث عنه في الإعراب، ويُطلق النحو إطلاقاً آخر على ما يرادف الإعراب، ويُقابل التصريف).

وأمّا الإعراب:

قال الإمام ابن منظور في (لسان العرب):

(الإعراب: هو الإبانة. يُقال: أعرب عنه لسانه وعرَّب، أي: أبان وأفصح. ويُقال: أعْرِبْ عماّ في ضميرك، أي: أبِنْ. وأعربَ الكلامَ، وأعربَ به: بيّنه. وعرّب منطقه، أي هذّبه من اللّحن. والإعراب الذي هو النحو: إنّما هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ).

فممّا اتضح بيانه من تلك المعاني اللغوية والاصطلاحية للنحو والإعراب، نُدرك أنهما علم يُتوصل بهما إلى ضبط الألفاظ العربية، وتؤدّى بهما المعاني على الوجه الصحيح، كما يُدرك بهما معاني النصوص ومقاصد تركيبها ومُؤدّى ألفاظها.

ولذلك كان علم النحو والإعراب، من علوم التفسير، لأنه به يتضح معنى القرآن وتُدرك مقاصده، ثم بهذا العلم تستقيم قراءة القارئ للقرآن، فلا يقع منه لحنٌ فيه، كما به يكون الكشف عن المعاني بالألفاظ.

ولذلك اتجهت مناهج العلماء المفسرين في تفسير القرآن الكريم، إلى أن يكون مع تفسير المعنى: إيضاح المبنى، وذلك يعتمد على علم النحو والإعراب.

فهذا الإمام الفراء يضع كتابه (معاني القرآن) لتفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه، ويعنى فيه عناية خاصة بما يتصل بمسائل النحو والإعراب، بالآيات القرآنية الكريمة وإلى جانب ذلك يتناول القراءات القرآنية، ويوجّهها توجيهاً نحوياً إعرابياً.

وكذلك فعل العكبري في كتابه (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن). يقول في مقدمة كتابه هذا:

(وأقْوَمُ طريق يُسلك في الوقوف على معناه، ويُتوصل به إلى تبيين أغراضه – أي: القرآن – ومغزاه؛ معرفة إعرابه واشتقاق مقاصده من أنحاء خطابه، والنظر في وجوه القرآن المنقولة عن الأئمة الأثبات).

وأيضاً الإمام مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه (مشكل إعراب القرآن) الذي أطلق عليه تسمية (تفسير إعراب القرآن) يقول في مقدمته:

(رأيتُ من أعظم ما يجب على طالب علوم القرآن، الراغب في تجويد ألفاظه وفهم معانيه، ومعرفة قراءاته ولُغاته، وأفضل ما القارئ إليه محتاجٌ؛ (معرفةُ إعرابه)، والوقف على تعرّف حركاته وسواكنه، ليكون بذلك سالِماً من اللحن فيه، مستعيناً على إحكام اللفظ به، مطّلعاً على المعاني التي قد تختلف باختلاف الحركات، متفهماً لما أراد الله تبارك وتعالى به من عباده).

ثم يقول: (بمعرفة الإعراب تُعرب أكثر المعاني، وينجلي الإشكال، وتظهر الفوائد ويُفهم الخطاب، وتصحُّ معرفة حقيقة المراد).

وهناك فرق بين تفسير الإعراب وتفسير المعنى، ذكره العلماء يجدر بنا ذكرهُ هنا.

الفرق بين تفسير الإعراب وتفسير المعنى:

قال الحافظ السيوطي في (الإتقان):

(قد يقع في كلامهم – أي: المفسرين – هذا تفسير معنى، وهذا تفسير إعراب، والفرق بينهما: أنّ تفسير الإعراب لا بدّ فيه من ملاحظة الصناعة النحوية، وتفسير المعنى لا تضره مخالفة ذلك).

وإلى هذا.. أشار الإمام ابن جنّي في كتابه (الخصائص)، فوضع له باباً بعنوان: (بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى) فقال:

(فإذا مرّ بك شيء من هذا عن أصحابنا، فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه، فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سَمْتِ تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه، وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى، تقبّلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصححت طريق تقدير الإعراب، حتى لا يشذّ شيء منها عليك، وإيّاك أن تسترسل، فتُفْسِدُ ما تُؤثر إصلاحه).

النحو والقرآن المجيد:

جاء في الأثر عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:

(تعلّموا النحو فإنّ بني إسرائيل كفروا بحرف واحد، كان في الإنجيل الكريم مسطوراً، وهو: (أنا وَلّدتُ عيسى) – بتشديد اللام – فخففوه، فكفروا).

وقد أورد الحافظ السيوطي في كتابه (الجامع الصغير) حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الحثِّ على لزوم تقويم اللسان: «رحم الله امرأً أصلح من لسانه»، ورمز لحسنه.

قال العلامة المناوي في شرح هذا الحديث: (أن الموهبي رواه في الجامع لآداب المحدّث والسامع عن عمر بن الخطاب، وسببه: أنّه مرّ بقوم رَمُوا رشفاً فأخطأوا، فقال: ما أسوأ رميكم!؟ قالوا: نحن متعلمين، قال: لحنكم أشدّ عليّ من رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «رحم الله امرأً أصلح من لسانه».

ولذلك قال العلماء في ضرورة تعلم النحو:

(إذْ بمعرفته يُعقل عن الله عز وجل كتابه، وما استوعاه من حكمته، واستودعه من آياته، المُبيّنة، وحُججه المنيرة، وقرآنه الواضح، ومواعظه الشافية، وبه يُفهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آثاره المُؤدية لأمره ونهيه وشرائعه وسُننه، وبه يتّسع المرء في منطقه).

ولقد وضع الإمام ابن هشام كتابه القيم (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)، لهذا الغرض، فكان كتابه هذا.. في حقيقته: (تفسير نحوي لآيات القرآن)، وذلك أنّه لا تجد صفحة من صفحاته تخلو من آيات القرآن الكريم، التي أتى بها على جهة التمثيل، أو على جهة الاستشهاد، أو على جهة التخريج، ثم هو يتكلم عن القراءات، ويتحدّث عن توجيهاتها النحوية، وهو في هذا المضمار خير كتاب نحوي يدور حول آيات القرآن الكريم، في ضوء النحو العربي، وفي ضوء مقاييسه وأصوله...

والحقيقة في هذا الشأن: أن علم النحو وُضع أوّل ما وُضع لصيانة لغة القرآن من كل تحريف، ولحفظها من أيِّ تغيير أو تبديل، وفي حفظها حفظ للقرآن والإسلام...

 

  • أهم المصادر والمراجع:

-         لسان العرب: ابن منظور.

-         الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي.

-         فيض القدير: الإمام المناوي.

-         الاشتقاق: الإمام ابن دريد.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم