قال تعالى:مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
 
 

قال الله تعالى في سورة (آل عمران):

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ116/مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

﴿فيها صِرٌّ﴾: أي: فيها بردٌ شديد.

أبان هذا النص أنَّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم التي يبذلونها في إعداد العُدَّة لمحاربة دين الله وإقامة الحصون واستخدام الجنود، ولن تغني عنهم أولادهم الذين يعينونهم في ذلك، من بأس الله شيئاً إذا أراد الله إنزال بأسه وعقابه فيهم.

ثم ضرب الله مثلاً لخيبة أعمالهم بقوم بذلوا أموالهم ووجَّهوا أعوانهم وأولادهم لاستثمار أرضٍ في الزراعة، فنبت الزرع ونما، ودنا وقت حصاده والانتفاع به، فأرسل الله عليه ريحاً باردةً فأهلكته، وكان ذلك بسبب أنهم ظلموا أنفسهم.

فالممثَّل له ما ينفقون من أموال في هذه الحياة الدنيا لتدعيم قضايا الكفر، وتهديم قضايا الإيمان، وعاقبة ما ينفقون إذا أراد الله إفساد أعمالهم، وإنزال بأسه فيهم، ونصرة أوليائه الصادقين عليهم.

والمثل هو الزرع الذي أهلكته الريح الباردة، وهذا الزرع لقومٍ ظلموا أنفسهم فعاقبهم الله بإهلاك زرعهم.

ثم تحدثت الآيات بعد ذلك عن طائفة من الشروط التي يجب على المؤمنين أن يستوفوها حتى يؤيدهم الله بنصره، ويُبطل أعمال أعدائهم.

ومن هذه الشروط أن لا يتخذ المؤمنون بطانةً من دونهم، ومنها التزام طاعة القيادة وعدم التأثّر بمطامع الدنيا.

ثم ضرب الله مثلين واقعيَّين:

الأول: معركة أحد، وكيف تحولت رياح النصر عن المؤمنين، بسبب إخلالهم بالشروط التي يتوقَّف التأييد الرباني الكامل على استيفائها.

الثاني: معركة بدر، وكيف نصرَ الله المؤمنين، وهزم أعداءهم، هزيمةً منكرة، مع أنَّ المؤمنين كانوا قليلين جداً عُدةً وعدداً، بالنسبة إلى عدوِّهم المتفوق عليهم كثيراً من الناحية المادية، ولكنْ لمّا أراد الله نصر المؤمنين لم تغنِ أموال الكافرين ولا جموعهم عنهم من الله شيئاً.

فالنص يدور حول بيان إبطال الله عز وجل لأعمال الكافرين وإعداداتهم التي يقصدون منها محاربة دين الله، ومحاربة جنده المخلصين المطبقين لشريعته، تحقيقاً لوعده بنصر أوليائه على أعدائه.

والنص يُطمئن قلوب المؤمنين من جهة، ويلوِّح للكافرين مهدِّداً بإفساد إعدادهم وتدمير ما يجمعون لمحاربة دين الله ومحاربة أوليائه، كما يبعث ريحاً باردةً على حرث قومٍ ظلموا أنفسهم فتُهلكه.

* تحليل المثل:

(أ) يلاحظ أنه لم يعرض من صورة الممثَّل له إلا مقطعٌ واحد، وهو: ﴿مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.

وهذا المقطع يستلزم ما وراءه حتى النتيجة، فهو المقطع الأول من صورة الممثَّل له.

(ب) ويُلاحظ في صورة المثل أنه قد حُذف منها المقطع الأول، وعُرض المقطع الأخير، والمقطع الأول المحذوف هو: قوم حرثوا أرضاً وزرعوها، فأنبتت لهم نباتاً حسناً، ولم يبقَ عليهم إلا أن يجمعوا نتاجها. والمقطع الأخير المذكور هو: ريحٌ فيها بردٌ شديد أصابت الحرث فأهلكته.

(ج) ولمّا قامت صورة المثل مقام صورة الممثَّل له، جاء البناء على المثل والحكم عليه كأنه عينُ الممثَّل له، فقال تعالى عقب ذلك مباشرة: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. وقد يقال: هذا البناء صالح للمثل والممثَّل له معاً.

(د) من الدِّقة في التعبير ما نلاحظه من القيد في المثل، الذي يدل على أنّ إهلاك الزرع بالريح الباردة إنما جاء لحرث قومٍ ظلموا أنفسهم، ولم يأتِ لحرث قوم أراد الله أن يمتحنهم بالمصيبة، وهذا القيد يُتمِّمُ التطابق في عناصر التماثل بين المثل والممثَّل له.

* أهم المصادر والمراجع:

- أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع: د. عبدالرحمن الصابوني.

- الأمثال في القرآن الكريم: د. محمد الفياض.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم