قال تعالى:وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ
 
 

قال الله تعالى في سورة البقرة:

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.

﴿يَنْعِقُ﴾: أي: يصيح في الغنم، والنَّعيقُ: هو صياح الراعي في غنمه.

هذا مثل لصنف من الكافرين، وهم الذين رفضوا أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، لأنَّهم صمَّموا على أن لا يؤمنوا، واختاروا بكمال إراداتهم سبُل الكفر على سبيل الإيمان.

وهم الذين قال الله بشأنهم في أوائل (سورة البقرة):

﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾.

هؤلاء قسمٌ من الكفار، كفروا عن تصميم على رفض الإيمان، وإرادة جازمة لهذا الرفض، بعد وضوح دلائل الإيمان لهم، ولم يكفروا عن جهلٍ أو غفلة، أو انشغال بالشهوات. لذلك فإنَّ عقدة هذا القسم من الناس تعمل في أعماقهم، ومن كانت عقدة كفره في أعماق نفسه، كانت النتيجة الطبيعيَّة التي تقضي بها سنَّة الله في خلقه أن يختم على قلبه فلا يقبل الهداية، وأن يكون على سمعه غشاوة لا تسمح بانتقال أقوال الهداية إلى مراكز إدراكه الواعي، وأن يكون على بصره غشاوة لا تسمح بانتقال مرئيات الهداية إلى مراكز وعيه، فسواءٌ عليه أأنذرته أم لم تنذره، إنه لا يؤمن لأنه لا يريد أن يؤمن.

فإذا استوى لدى هذا القسم من الكافرين الإنذار وعدمه، ودعوتهم إلى الهداية وعدم دعوتهم، لأنهم أرادوا أن لا يؤمنوا، وصمَّموا على ذلك، فإنَّ باستطاعتنا أن نمثِّل من يدعوهم بمن يدعو الجدار ويخاطبه، وأن نمثِّل من ينذرهم بمن ينذر الحجارة التي لا تستجيب لداعيها أو منذرها.

لكنَّ الجُدُر أو الحجارة لا تسمع شيئاً وهم يسمعون، إلا أنَّ ما يسمعونه لا ينفذ إلى مراكز وعيهم الذي يؤثر فيهم، فلا يهزّهم بطمع ولا بخوف.

إذن فأحسن تمثيل لهم أن نمثّلهم بالأنعام، وأن نمثّل من يدعوهم إلى الهدى وينذرهم عاقبة كفرهم بخطيب يقف في قطيع من الغنم، فيخطب فيه خطبةً بليغة، إنَّ هذا هو التمثيل الملائم المطابق لصورة الممثَّل له والمراعى فيه دقة التصوير، وهو ما جاء في المثل القرآني.

فمثل من يدعو الذين كفروا ممن استوى لديهم الإنذار وعدمه، كمثل من يخاطب بصوته العالي قطيعاً من الغنم، فلا يسمع القطيع منه إلا دعاءً ونداءً، لأنه لا يفهم ولا يعي الكلام الذي يخاطب به ولا يدرك دلالاته، وهؤلاء كذلك، لأنَّ سمعهم الواعي عليه غشاوة من عُقْدةِ كفرهم، ومثل سمعهم سائر حواسهم، لذلك فهم بالنسبة إلى دعوة الإيمان وآياته صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون.

وهكذا وَضحتْ لنا دقة التصوير، ووضحت لنا أيضاً في الصورة التمثيلية الحركة الحية الناطقة، إذ بدا فيها ناعق يخطب في قطيع من الغنم، والقطيع يموج بعضه في بعض، وهو لا يدري من كلام الناعق الخطيب شيئاً، ونفس الخطيب تتمزَّق بمشاعر الخيبة وعدم جدوى عمله.

وفي هذا المثل إلماح للدعاة بأن لا يوجّهوا اهتمامهم الكبير لهذا الصنف الميؤوس من إيمانه، إذ استوى عنده الإنذار وعدمه.

* أهم المصادر والمراجع:

- أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع: د. عبدالرحمن الصابوني.

- الأمثال في القرآن الكريم: د. محمد الفياض.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم