منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري
 
 

يعرض القرآن الكريم قضية التوحيد ويدعو الناس لتوحيد الله ونبذ الشركاء والأنداد ويقيم الحجج والبراهين على وحدانية الله تعالى، يسلك في كل ذلك المنهج الفطري من خلال المشاهدات المحسوسة البسيطة التي يتعامل معها الناس جميعاً على مختلف مستوياتهم العقلية وتباين مشاربهم الفكرية.

إن الكون المادي مكوّن من عناصر مادية بسيطة ومن هذه العناصر البسيطة تتولد أعقد الأشكال وأضخمها ابتداء من الذرة إلى مسارات الكواكب والأفلاك والمجرات.

وكذلك أمر العقيدة فمن المشاهدات الأولية البسيطة في حياة الناس يكون التوصل إلى الإيمان بخالق الكون ومدبره قيوم السماوات والأرض.

إن مخاطبة الناس بما يدركون، والاستدلال على القضايا بما يحسون وضرب الأمثال بما يفقهون، والاستدلال من خلالها على ما يعقلون، هو الأسلوب الفطري المؤثر الفعال في إيجاد القناعات لديهم وهي الطريقة المثلى لتحريك كوامن الفطرة السليمة واستجاشتها عندهم. إن الإعرابي عندما استدل على قضية عقلية (لا بد لكل حادث من محدث) توصل إلى هذه النتيجة من خلال مشاهداته المحسوسة:البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبرج وأرض ذات فجاج ألا تدل على السميع البصير؟؟ بلى. إنها الطريقة الفطرية في المحاجة والاستدلال فعندما يفتح العاقل عينيه يستفسر عن مشاهداته لما حوله مَنْ أوجد هذا؟ ولماذا كان على هذه الهيئة دون غيرها؟ وكيف يعمل هذا؟ وما مصير هذا؟ إن الأسئلة بسيطة، وفي نفس الوقت هي صعبة؟!

بسيطة في إثارتها، صعبة في الحصول على الإجابة المقنعة التي يطمئن لها القلب ويستسلم لها العقل.

والقرآن بدأ هذه البدايات المبسطة وتوصل إلى تلك النتائج الباهرة المقنعة من خلال إقامة البراهين. ولو ذهبنا نسوق الأمثلة على أسلوب القرآن الكريم الفطري في المحاجة والاستدلال لامتد بنا المجال، ولكن نستدل على ذلك من خلال آيات سورة الواقعة، فنتدبر قول الله تعالى ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾ هذه هي القضية التي يراد إثباتها والاستدلال عليها، وهي قضية: تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد وعدم وجود الشركاء له في ذلك: فما هي الأدلة؟

﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ58/56أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ59/56نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ60/56عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ61/56وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ62/56أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ 63/56أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ64/56لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ65/56إِنَّا لَمُغْرَمُونَ66/56بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 67/56أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ68/56أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ69/56لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ 70/56أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ71/56أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ72/56نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ 73/56فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 57 – 74].

يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات:

(وفيه تنجلي طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة. إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى، يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود. إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره، ... إنه المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون...

المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل، والزرع، والماء، والنار أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة، ومسقط ماء، وموقد نار...

ومن هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة... وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربانية... فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان... وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان...).

* * *

* المرجع:

مباحث في التفسير الموضوعي: د. مصطفى مسلم.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم