المكّيّ والمدنيّ تعريف كلّ منهما، خصائص كلّ منهما، الفائدة من معرفة ذلك
 
 

* تمهيد:

ينقسم القرآن في مجموعه إلى مكّي ومدني. وقد عني العلماء والرواة عناية كبرى بتميز هذين القسمين عن بعضهما واستخراج خصائص كلٍّ منهما، لما يترتب على ذلك من الفوائد التشريعية والتاريخية التي ستعلمها فيما بعد بل لقد عني الرواة والباحثون بتصنيف القرآن إلى ما نزل منه في النهار وما نزل منه في الليل، وإلى ما نزل منه في الأسفار.

ونحن لن نتناول في هذه العجالة حديث الليلي والنهاري أو الحضري والسفري من القرآن، لأنّا نرى أن فائدة ذلك- في هذا المقام – فائدة جزئية ضعيفة، وإن كان البحث فيه ينبّها إلى مدى اهتمام العلماء والرواة بالقرآن وإلى مدى خدمتهم ودراستهم له من شتى الجوانب المختلفة.

تعريف المكّي والمدني:

للعلماء ثلاثة اصطلاحات في تعريف كلٍّ من المكّي والمدني.

أحدها: أن المكّي هو كل ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، وسواء كان ذلك من قبل الهجرة أو بعدها. فالاعتبار على هذا الاصطلاح للمكان وحده.

والثاني: أن المكّي ما رقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة، فالاعتبار على هذا للموضوع وحده.

والثالث: أن المكّي ما نزل من قبل لهجرة والمدني ما نزل من بعد الهجرة، دون النظر إلى مكان النزول بالذات. والاعتبار على هذا للزمان وحده.

وهذا الاصطلاح الثالث هو أشهر وأصح ما قيل في الموضوع.

وبناءً على ذلك فإن كل ما نزل من القرآن من قبل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يسمى مكيّاً سواء نزل في مكة أو في الطائف أو في أي جهة أخرى. وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني سواء نزل بالمدينة أو في الأسفار والغزوات أو في مكة في عام الفتح.

وقد تجد في القرآن سوراً نزلت كلها من قبل الهجرة كسورة «ق» و«هود» و«يوسف». وقد تجد فيه سوراً نزلت كلها بعد الهجرة كسورة «البقرة» و«آل عمران». وقد تجد فيه سوراً كلها مكيّة إلا بضع آيات منها، نزلت بعد الهجرة كسورة الأنعام: كلها مكّي إلا ست آيات منها فهي مدنية نزلت بعد الهجرة، وقد تجد سوراً كل آياتها مدنية إلا بعض آيات منها فهي مكية كسورة الأنفال والتوبة.

ولعلك تسأل: فكيف تسنى للعلماء أن يعرفوا تفصيل هذا الأمر، وكيف أمكنهم أن يعلموا أن هذه الآية نزلت في مكة والأخرى بالمدينة، وأن هذه نزلت في الليل وتلك نزلت في النهار؟

والجواب أن سبيل معرفة ذلك إنما هي الرواية الصحيحة الصادقة، وهي السبيل ذاتها التي وقف بها العلماء على تفسير القرآن بالمأثور، كما مرّ بيانه. ومما سهّل للعلماء ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم عنوا بالقرآن عناية فائقة عجيبة، فكانوا يؤرخون كل آية بوقت نزولها ومكانها، وربما اتخذوا من الأماكن والجبال والمفاوز التي يعلمونها، أماكن ذكرى، بسبب آية أو آيات من القرآن قد نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أحداً مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.

وذكر في الإتقان نقلاً عن كتاب الحلية بالسند أن رجلاً سأل عكرمة رضي الله عنه عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح الجبل، وأشار إلى سلع.

وأنت خبير أنَّا لا نقصد بما نقول جميع الصحابة، بل إن فيهم من لم يتوفر على ذلك، ولكنا نقصد منهم أولئك الذي اشتهروا بقراءة القرآن وحفظه ونقله من فم الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كثيرون. فكانوا يحفظون مع نطق الآية وتلقيها وكتابتها- تاريخ نزولها.

فاشتغل التابعون ومن بعدهم برواية هذا كله ونقله، بالطرق العلمية، وحسب قواعد المصطلح. وبذلك وجد العلماء بين أيديهم ما أطلق عليه فيما بعد اسم (عِلْم المكّي والمدني).

خصائص كلٍّ منهما:

علمت مما قلناه أن الآيات المكيّة من القرآن، هي الني نزلت في صدر الإسلام وهي الفترة التي يحدّها من الزمن ثلاثة عشر عاماً، أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة معذباً مضطهداً، يقابل الإيذاء والاضطهاد بالمسالمة، مع المضي في الدعة إلى الحق الذي أُوحي إليه.

وعلمت أن الآيات المدنية، هي التي نزلت بعد الهجرة، وهي الفترة التي يحدّها من الزمن عشرة أعوام، بنى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية حيث تكاملت مقوِّماتها الإدارية والدستورية والقانونية.

وعلى هذا، فإنك تجد خصائص كلٍّ من القسمين، مستمدة من طبيعة هاتين المرحلتين التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الدعوة.

فأنت تجد أن الآيات المكيّة تمتاز بواحد مما يلي:

1ً- ذكر قصص الأنبياء والأمم الخالية ودعوة الناس إلى الاعتبار بهم إلا ما يتعلق بالحديث عن مريم وعيسى عليه الصلاة والسلام وقصة ولادته، فقد نزل بعض ذلك في المدينة حجاجاً لأهل الكتاب.

2ً- المناقشة والحجاج وعرض الأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته وعلى بعث الأجساد مع أرواحها من بعد الموت للحساب.

3ً- تثبيت فؤاد الرسول ودعوته إلى الصبر على الأذى تأسياً بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين الذي بُعِثوا لدعوة الناس إلى هذا الدين ذاته.

4ً- يغلب على الآيات المكيّة أن تكون قصيرة ذات وقع معين في الأُذن والنفس، تبعث على الرهبة والخشية وتشعر بمعنى الجلال والجبروت، كمعظم السور التي تقرأها في جزء تبارك وعمّ يتساءلون.

فهذه الخصائص تجدها في الآيات المكية وهي من طبيعة المرحلة التي كانت تمر بها الدعوة الإسلامية. أما خصائص الآيات المدنية فهي ما يلي:

1ً- البحث في الأحكام والتشريعات المتعلقة بالعبادة والمعاملات والحدود وغيره.

2ً- الأمر بالجهاد والقتال والتعليق على الغزوات وما يتعلق بها من شان الغنائم والأسرى والمنافقين.

3ً- البحث في شؤون الحكم والشورى وضرورة الرجوع فيهما إلى الكتاب والسنة.

4ً- يغلب على الآيات المدنية أن تكون طويلة فيها اللين والهدوء، ووعد المسلمين بالفوز والنصر.

فتلك هي خصائص الآيات المدنية وهي من طبيعة المرحلة الثانية التي مرّت بها الدعوة الإسلامية. وبهذا تستطيع أن تميز بين السور المكيّة والمدنية من غير الرجوع إلى روايات العلماء والمفسرين في ذلك. فحسبك أن تقرأ سورة البقرة وتطّلع على ما تجمع فيها من أحكام الصيام والحج والوصية والقصاص والنكاح والرضاع والطلاق وغيرها لتعلم أنها سور مدنية. وحسبك أن تقرأ سورة مثل ق وتقف على ما فيها من الحجاج والنقاش مع المشركين وما فيها من الأدلة على وجود الله، وما ينبعث من جرسها وفواصلها وإيقاع آياتها من المعاني الشدة والتهديد والجبروت، لتعلم أنها سورة مكية.

الفائدة من معرفة هذا العلم:

تتوقف فوائد علمية كثيرة على معرفة المكّي والمدني من القرآن.

فمن أهمها معرفة ما قد يوجد في القرآن من ناسخ ومنسوخ، ليُصار إلى الأخذ بالناسخ واطراح المنسوخ (في مجال الأحكام والتشريع) وإنما تتوقف معرفة ذلك على معرفة تاريخ نزول الآيات.

واعلم أن وجود (الناسخ والمنسوخ) في القرآن، اقتضته ضرورة أخذ الناس بالتدرج في الأحكام الشرعية؛ كالآيات التي نزلت متدرجة في تحريم الخمر، وكالآيات التي نزلت في عقوبة الزنى.

وليس معنى نسخ الحكم في آيات القرآن أن قرآنيتها قد سقطت بذلك، بل هي تظل قراناً يًتلى ويتعبد به وهي من كلام الله عزّ وجلّ، ولكتن يبطل العمل بها لمكان الآية التي نسختها.

وفائدة ذلك لنا نحن، التبصّر بالمراحل التدريجية التي سار فيها التشريع والاطّلاع على الطريقة الحكمية المثلى التي أخذ الله بها عباده فيما سنَّ لهم من أحكام.

ومن فوائد ذلك أيضاً تتبّع مراحل الدعوة الإسلامية، والاطّلاع على كيفية تكامل بنية الفكر والتصور الإسلامي، وهو مما يهم الباحثين في تاريخ التشريع وأطواره.

ومن فوائد انه يُبَصِّر القارئ والمفسر بمعنى الآية ويحجزه عن الخطأ في تفسيرها. ذلك أن من قرأ سورة ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ ولم يعلم زمن نزولها وهل هي مكية أم مدنية، فإنه يحارُ في معناها، وقد يستخرج منها أن المسلمين لا يكفون بالجهاد ولي ديني. فإذا علم أن هذه السورة إنما نزلت في مكة، عندما قال بعض صناديد الشرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال يا محمد نعبد إلهك يوماً وتعبد إلهنا يوماً- إذا علم هذا، أدرك أن هذه السورة إنما هي علاج لتلك المرحلة ذاتها، وليست دليلاً على عدم مشروعية الجهاد الذي نزلت فيه آيات كثيرة أخرى في المدينة.

  • المصدر:

- من روائع القرآن الكريم: د. محمد سعيد رمضان البوطي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم