القاعدة التاسعة عشرة:الالتجاءُ إلى الله بالدُّعاء والذِّكْر وطلبُ العون منه
 
 

لعلَّ أكثرَ القوَاعِدِ التي ذكرتُها فيما سَبَق إنما هي قواعِدُ حِسِّيةٌ مادّية في عملية الحِفْظ، ولم أعطِ القواعدَ المعنويةَ حقَّها إلا النزر اليسير، مع العلم بأن دَوْرَها أعظمُ، ولذلك افتتَحتُ هذه القَوَاعِدَ بقاعدةٍ معنويَّةٍ وسأختمها بقاعدة معنوية.

الالتجاء إلى الله تعالى يًهَوِّنُ كلَّ عسير، والاعتمادُ على الله وطَلَبُ العَوْنِ منه عندما يثقُلُ الحِفْظُ عليك، هو أفضلُ دواءٍ، ولقد حَصَلَ معَ أحد طلبة العلم أنه كان يحفظ متن الشاطبية في القراءات السبع، فتعسر عليه حِفْظ باب من أبوابها، فما كان منه إلا أن التجأ إلى الله باكياً في وقت السحر راجياً الله سبحانه أن يفتح عليه، وإذ بالله الكريم يمنُّ عليه بالحِفْظ الجيد لذلك الباب.

وكثيراً ما يُصيبُ طلبةَ العلم فُتُورٌ بعد مُدَّةٍ من الزَّمَنِ أثناءَ الحِفْظ بسببٍ عارضٍ من العَوَارِضِ الجانبية وما أكثرها في زمننا هذا، فبالرغم من معرفته بكثير من القَوَاعِدِ السابقة وأساليب حِفْظ القرآن الكريم يرى نفسَه غيرَ مقبلةٍ على القرآن، فلا دواءَ لمثل هذه الحالة أفضل من اللجوء إلى الله والوقوف بين يديه، والتذلُّل في مِحْراب طاعَتِهِ، والانكسار إليه في أحبِّ الأوقات وذلك في السحر، فإن الله لا يرد طالباً صادقاً قَصَدَه.

كيف...! وقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].

ولا بأس أن نستأنس بحديث عليّ رضي الله عنه في الحفظ، وإن كان فيه كلام عند المحدثين، فقد رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط البخاريّ ومسلم: قال عليُّ بن أبي طالب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، تَفَلَّتَ هذا القرآنُ من صَدْرِي فما أَجِدُني أقْدِرُ عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا الحسَنِ، أفلا أَعَلِّمُكَ كَلِماتٍ ينفعك الله بهنَّ وينفع بهنَّ مَن علَّمْتَه، ويُثَبِّتُ ما تعلمتَه في صدرك...؟ فقال: أجَلْ يا رسول الله فعلِّمْني، قال: إذا كانتْ ليلةُ الجمعة فإن استطعتَ أن تقومَ من ثُلث الليل الأخير فهي ساعةٌ مشهودةٌ، والدعاءُ فيها مستجابٌ فقد قال أخي يعقوب لبنيه: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ﴾ يقول حتى تأتيَ ليلةُ الجمُعة- فإن لم تستطِعْ فقُمْ في وَسَطِها، فإن لم تستطِعْ، فإن لم تستطِعْ فقُمْ في أوَّلِهَا، فَصَلِّ أرْبَعَ ركعات، تقرأ في الرّكعة الأولى بفاتحةِ الكتاب وسورة يس، وفي الرّكعة الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدُّخان، وفي الرّكعة الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة، وفي الركعة الرابعة تبارك المفصَّل، فإذا فَرَغتَ من التشهُّد، واستغفِرْ للمؤمنات، ولإخوانِكَ الذين سبقوك بالإيمان، ثم قُلْ في آخر ذلك:

اللَّهُمَّ ارْحَمْني بترْكِ المعَاصِي أبداً ما أبقَيتَني، وارْحَمْني أن أتكلَّفَ ما لا يَعْنيني، وارْزقني حُسْنَ النَّظَرِ فيما يُرْضِيك عنّي، اللهُمَّ بَديعَ السمواتِ والأرضِ، ذا الجلالِ والإكْرام، والعزة التي لا تُرام أسْألك يا الله ويا رحمن بجلالِكَ ونورِ وجهِكَ أن تُلزِمَ قلْبي حِفْظَ كتابِك كما علمتني، وارزقني أن أتلوَه على الوجْه الذي يُرضيك عنِّي.

اللهُمَّ بَديعَ السمواتِ والأرضِ، ذَا الجلالِ والإكْرام، والعزة التي لا تُرَام، أسْألك يا ألله ويا رحمن بجلالِكَ ونورِ وجهِكَ أن تُنوِّرَ بكتابِكَ بَصرَك، وأن تطلقَ به لسانِي، وأن تفرِّجَ به عَن قلبي، وأن تشْرحَ بِهِ صَدْري وأن تَشْغَلَ به بَدَني، فإنه لا يُعينُني على الحقِّ غيرُكَ ولا يُؤتينيهِ أحَدٌ إلا أنتَ ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلا بالله العَظِيم.

أبا الحسَنِ، تَفَعَلُ ذلك ثلاثَ جُمَعٍ أو خمساً أو سبعاً تُجابُ بإذن الله. قال ابن عبّاس: فما لَبِثَ عليٌّ إلا خمساً أو سبعاً حتى جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس فقال: يا رسول الله إني كنت فيما خَلا لأَتَعلَّم أربع آيات أو نحوهن، فإذا قرأتُهُنَّ في نفسي يتفلَّتْنَ، وأنا [أي الآن] أَتعَلَّمُ الأربعين آية ونحوها، فإذا قرأتُها على نفسي فَلَكأَنما كتاب الله بين عينيَّ، ولقد كنتُ أسمعُ الحديثَ، فإذا أردتُّه تفلَّتَ مني، وأنا اليوم أسمع الأحاديثَ، فإذا تحدثتُ بها لم أخْرِم منها حَرفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: مؤمِنٌ وربِّ الكعبةِ أبو الحسَنِ.

وقد جرَّبَ ذلك إخوةٌ كثيرون وأحسُّوا بالفائدة، وأكرمهم الله بالحِفْظ المتقن.

والالتجاءُ إلى الله تعالى أنجعُ دواءٍ لمن يريد حِفْظ القرآن، فإذ عَسُرَ عليكَ الحِفْظ يوماً من الأيام فالْجَأ إلى الله واطلُبْ منه فهو الكريم، والكريم لا يرد طالباً أتاه، ولا تَنسَ أن تطلبَ مع الحِفْظ التطبيق والعمل بهذا القرآن، فقِلّةٌ أولئك الموفَّقُون للعمل الذي هو المقصِدُ الأساسُ من حِفْظ القرآن الكريم، وهكذا كان شأن الصحابة رضي الله عنهم.

فهذه تسعَ عَشْرَةَ قاعدةً بين يديك- أخي الحبيب- أسأل الله الكريمَ أن يوفِّقَكَ لإتقانها والحِفْظ على ضوئها؛ فالبناء العالي ينبغي أن يكون مرتكزاً على قواعد متينة، وأُسُسٍ قوية.

وأما كيفية حِفْظ القرآن الكريم، والطرق الْمُعِينَة على الحِفْظ، والأساليبُ التي يُمْكِنُ من خلالها أن يحفظَ الإنسان القرآن مهما كان عُمُره، فذلك ما سأفصِّله لك في الفصل القادم بإذن اله تعالى، وهو الْمِحْوَرُ الذي يَدُورُ عليه هذا البحث.

 

  • المصدر:

-          كيف تحفظ القرآن الكريم: د. يحيى الغوثاني.

-          دروس في ترتيل القرآن الكريم: الشيخ عبدالقادر شيخ الزور.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم