الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير.. (1)
 
 

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً وبعد...

فإن القرآن الكريم أعظم أنيس وخير جليس، لا يُملّ حديثه ولا تنفد عجائبه، وترداده يزداد فيه تجمّلاً، وإنّ من أسرار القرآن العظيم وروعة بيانه أنّك كلّما أبحرت فيه ازددت تعمّقاً وشوقاً وكلما نهلت من فيضه ومعينه الصّافي ازددت به تعلّقاً وتشبثاً، وما يبعد عنه إلّا من جفا قلبه وغلظ كبده.

وهذا كتابه الله – تعالى – الذي شغل العالم منذ نزوله إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو مصباح الظّلام ومنهل البيان الذي وقف فحول العرب وفصحاؤهم أمامه عاجزين مشدوهين، وهم الذين طالما خاضوا معارك البلاغة والبيان، وتباروا في فنون القول وأسراره حتى أسروا القلوب والأذهان بسحر بيانهم وتبيينهم، وهاهم أولاء يقفون أمام البيان الأعظم مأسورين مشدوهين عاجزين!!

وقد جاء أسلوب القرآن الكريم في الغاية العظمى من البلاغة والفصاحة، وخرج عن جميع وجوه النظم المتعارف عليها في كلام العرب فتوافر العلماء على البحث في أسراره واستخراج درره، فصنّف فيه الزملكاني والفراء وأبو عبيده وابن قتيبة والإمام الرازي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، ( والواقع أن المصنفات الأولى في الإعجاز على اختلاف مذاهب أصحابها، جاءت أشبه بمباحث بلاغية مما قدروا أن إعجاز القرآن يُعرف بها، وإن استوعبت أقوال المتكلمين في وجوه الإعجاز، فرسائل الخطّابي السنى، والرّمّاني المعتزلي، والباقلّاني الأشعري، تأخذ مكانها في المكتبة البلاغيّة وبعد أن استقلّت البلاغة بالتأليف والتصنيف، وُجّهت إلى خدمة الإعجاز البلاغي.. الجرجاني يضع كتابه في النظم والبلاغة ويقدّمه باسم ( دلائل الإعجاز )، وأبو هلال العسكريّ يضع علم الفصاحة والبلاغة تالياً لعلم التّوحيد، والزمخشري وهو من المعتزلة يقرّر أنه لابدّ من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وجرى المتأخّرون على أن يجمعوا في الإعجاز كل ما قاله السّلف من وجوه، كصنيع الشيخ محمد عبده في الفصل الذي كتبه في تفسيره ( تفسير الذكر الحكيم ) عن الإعجاز

مشكلة البحث :

تكمن مشكلة البحث في وجود دقائق نفيسة ولطائف بليغة لأسلوب التقديم والتأخير الذي عدّه ابن جني إحدى صور شجاعته العربية وقوّة لغتها... ويتنوّع هذا الأسلوب وتتغير دلالته تبعاً لتغيّر السياق وحاجة المقام، فما كان لكلمة أن تتقدم من مكانها دون غاية معنوية وهدف دلالي تريد أن تبثّه في الجملة... والقرآن الكريم كلام الله المعجز وبيانه المحكم يشتمل على هذه الأساليب التي ينبغي الوقوف مع أسرارها ودلائلها.

هدف البحث ومنهجه :

          يهدف البحث إلى الوقوف على أساليب التقديم والتأخير ومعرفة لطائفه، فهو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لايزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفه، ثم يقول : إلا أنّ الشأن في أنّه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدّم فيه موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير .

وقد تمثل منهج البحث في الخطوات الآتية :

·       أولاً : التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام.

·       ثانياً : التقديم للاختصاص.

·       ثالثاً : التّقديم بين الآية والآية، وهذه الوقفة تشمل ما يأتي :

1.    تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة

2.    تقديم آية على آية في النّزول

3.    تقديم موضوع على آخر في السورة الواحدة

4.    التقديم والتأخير في المتشابه

·       الخاتمة : وتتضمّن أهم نتائج البحث وبعض التّوصيات

·       ثبت المصادر والمراجع.

أوّلاً: التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام:

        إنّ الناظر في بستان القرآن الكريم ليجد نفسه في حديقة غنّاء، لا يكاد يخرج من ثمرة إلّا ويجد نفسه قد تعلّقت بأخرى يستنشق عبيرها ويطعم رحيقها في إذكاء روحي منقطع النّظير..

والناظر في السّياق القرآني يجد هذا الأسلوب هو "مادة الإعجاز في كلام العرب كلّه، ليس من ذلك شيء إلّا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزاً، وهو الذي قطع العرب دون المعارضة " والسياق القرآني يحمل الكثير من الخصائص التركيبية التي تسمو على لغة البشر قوة وصفاء ونقاء، وكان سياق التقديم والتأخير واحداً من فرائد القرآن وخصائصه، سيق لإبراز مقام الموقف بروحه وعمقه، وسوف نقف بإذن الله وتوفيقه مع بعض هذه السياقات:

التقديم في بعض أسمائه سبحانه:

كتقديم ( العزيز ) على ( الحكيم ) لأنّه تعالى عز فحكم كما في قوله تعالى:(( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم )) ( البقرة 129 )

وذلك أن معنى ( العزيز ) لا يغالب، والقادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله. ومعنى ( الحكيم ) المدبّر الذي يحكم الصنع ويحسن التدبير، فتكون القدرة متقدّمة على حسن التّدبير.

وبالنّظر في الآية الكريمة نجد فيها ترتيباً آخر اقتضى تنظيم الأفعال داخل السياق فجاء الدعاء ببعث الرسول أولاً  ( وابعث ) ثم التلاوة  ( يتلو ) ثم التعليم ( ويعلّمهم ) ثم التزكية والتطهير ( ويزكّيهم)..

وفي ترتيب هذه الأفعال وتقديم بعضها على بعض أثر عميق في النفس.. إذ يوحي اختيار كلمة البعث في قوله   ( وابعث ) بأنهم كانوا كالموتى في أحوالهم، لا يشعرون بشيء من صالح الحياة، فيكون الرسول فيهم بمثابة من بعثهم من رقادهم الجاهلي وموتهم القلبي.. وقوله ( منهم ) ليكون أرفق بهم وأعلم بشؤونهم وأحوالهم.. فإذا تحقق هذا جاءت المرحلة الثانية وهي التلاوة بما فيها من خشوع وتدبّر وترقيق للقلب والنفس، ولذلك اقتضاها السياق إيثاراً على ( يقرأ ) مثلاً، فإذا تحققت التلاوة بسياجها جاء التعليم الذي يشتمل على الكتاب أي القرآن الكريم وبما فيه من حكمة، أي فقه الشريعة وفهم التأويل، و"قيل إن المراد بالآيات:ظاهر الألفاظ، والكتاب:معانيها، والحكمة:الحكم وهو مراد الله بالخطاب، والعزيز:الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، وقال الكسائي:العزيز:الغالب[6]. ولهذا أكّد الضمير المتصل في ( إنك ) بالضمير المنفصل ( أنت ) للدلالة على أنه لا غالب إلا الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى غالب على أمره، يمضي أمره ويمكّن لرسله، ولهذا اقتضى السياق في ختام الآية قوله:( العزيز الحكيم ) دون:العليم أو الخبير مثلاً، ولأن لكل مقام مقال، فقد جاءت السياقات المشابهة لهذا المعنى بـ ( العزيز الحكيم ) نحو قوله تعالى:(( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم )) ( البقرة 209 )

          فقد جاءت الآية على وجه التهديد والوعيد، أي:من ضلّ عن طريق الهداية وانحرف عن سبيل الحق بعد ما تبيّن له البيّنات والحجج ما تبيّن (( فاعلموا أن الله عزيز حكيم )) وهذا أبلغ في إثبات الروع والمهابة، ولو جاء نوع العذاب محدداً ما بلغ في الحسن مبلغ قوله ( عزيز حكيم ) أي غالب لا يعجزه الانتقام منكم،     ( الحكيم ) لا ينتقم إلا بحق، وروى أن قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يقرأ القرآن، وقال:إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه.

وإذا كان الزلل معناه التنحّي عن طريق الحق والهداية، فإن أصله "الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال:زلّ يزلّ زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وقرئ:زللتم " بكسر اللام وهما لغتان".

وقد جاء الفعل ( جاءكم ) مؤنثاً بتاء التأنيث لأن الفاعل مؤنث ( البيّنات ) أي:الحجج الواضحة والبراهين الصحيحة، وقد يأتي مذكّراً مع ( البيّنات ) في موضع آخر حسب اقتضاء المعنى، وذلك كما جاء في قوله تعالى:(( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين )) ( آل عمران 86 )

فإن المقصود بالبيّنات في هذا الموضع:القرآن الكريم، والله تعالى أعلم، لأنّ ما دلّت عليه الكلمة كان مذكراً، فقد جاء قبلها قوله تعالى:(( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ))       ( آل عمران 85 )

وكل من هؤلاء الأنبياء... أُنزل عليه كتاب، والكتاب مذكر، ثم ورد في الآية التالية لها، كلمة ( الإسلام) والإسلام مذكر، فما دلت عليه كلمة البيّنات كان... مذكراً سواء أكان الكتاب أم كان الإسلام أم كان الكتاب والإسلام معاً، ولهذا جاء فعلها... مذكراً.

وقال تعالى في موضع آخر من نفس السورة الكريمة:(( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم )) ( آل عمران 105 )، فقدّم التفرقة على الاختلاف لأن الأولى سبب في الثانية التي جاءت مترتّبة عليها، فالاختلاف ناجم عن التفرقة وتابع لها، وهو ثمرة من ثمارها، وجاء الفعل( جاءهم ) في صورة المذكّر، لأن كلمة البيّنات التي وردت في الآية تعني الكتاب – كذلك – تعني التوراة والإنجيل وكل منهما كتاب.

وتأتي مواضيع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى ووحدانيّته وذلك نحو قوله تعالى:(( هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلّا هو العزيز الحكيم )) ( آل عمران 6 )

وقوله:(( شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ))         ( آل عمران 62 )

وقوله:(( إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم )) ( المائدة 118)

وقوله:(( يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم )) ( النمل 9 )

هذا ويتقدّم ذكر العزيز على الحكيم – أيضاً – في مقام تنزيه الله تعالى وخضوع الكون له – سبحانه – وذلك نحو قوله تعالى:(( وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الجاثية 37 )

وذلك لأن السياق قبل هذه الآية، تحدّث عن عناد الكافرين وإعراضهم عن منهج الحق، فسلّط الله عليهم عذاب النار لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فناسب ذلك ذكر العزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يفوته.. ويفعل ذلك عن حكمة ويقول تعالى:

(( وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرّتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون )) ( الجاثية 34- 35 )

وفي مقام التّنزيه والتسبيح يقول الحق سبحانه:

(( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحديد 1 )

(( سبّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 1 )

(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ))      ( الحشر 24 )

فناسب هذا المقام ذكر  العزيز على غيره من الأسماء والصفات، وناسبه التقديم على ( الحكيم ) لئلا يتوهّم أحد أن الله تعالى بحاجة إلى من يسبحه أو ينزهه، بل هو منزه بذاته، قدوس بجلاله، عزيز بقوته وجبروته وحكمته.. وقد جاء فعل التسبيح بالماضي ( سبح لله ) كما في أوّل الحديد والحشر ( والصف أيضاً )، وختمت سورة الحشر بالمضارع ( يسبح ) وافتتحت بها سورة الجمعة:(( يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدّوس العزيز الحكيم )) ( الجمعة1).

لأن هذه الكلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ( سورة الإسراء ) فقال تعالى:(( سبحان الذي أسرى بعبده.. )) لأنه الأصل، ثم بالماضي لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر في سورة الأعلى ((سبح اسم ربك الأعلى ))، استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وقوله تعالى:(( لله ما في السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير )) ( الحديد 2 )، لأن التقدير في هذه السور:(سبح لله كل السموات والأرض ) وكذلك قال في آخر الحشر بعد قوله:(الخالق البارئ المصوّر ):(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 24 ) أي خلقهما.

وتأتي أيضاً مواضع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن النصر وذلك نحو قوله تعالى:(( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم )) ( آل عمران 126 ) وقوله:(( وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النّصر إلّا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم ))      ( الأنفال 10 )

فقدّم البشرى على الطمأنينة في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء الذي تكرّر مرتين، لأنّ الطمأنينة ناتجة عن البرى التي تبعث السرور والراحة في النفس فتنشأ الطمأنينة بالتبعية، وجاء التعبير بلفظة الجلالة ( الله ) لإثبات مقام العزّة وغلبة أمر الله في دحض المشركين..

وقد جاءت الآية في آل عمران بإثبات ( لكم ) وتأخير به وحذف أسلوب ( إن الله ). وفي آية الأنفال بحذف  ( لكم ) وتقديم ( به ) وإثبات ( إن الله )، لأن البشرى هنا للمخاطبين، فبيّن وقال:( لكم ).

وفي الأنفال قد تقدّم ( لكم ) في قوله تعالى:(( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين )) ( الأنفال 9 ) فاكتفى بذلك.

وفي مقام الحديث عن نصر الله لنبيّه والتمكين له في الأرض ودحض كلمة الكافرين، تقدّم ذكر العزيز على الحكيم، يقول تعالى:(( إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )) ( التوبة 40 )

فجاء التعبير بالفعل الماضي الدال على التحقيق واليقين في الحديث عن النصر:فقد نصره الله فأنزل – وأيّده – وجعل... بينما جاء التعبير بالمضارع في تصوير مشهد الغار (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن... )) وذلك لاستحضار صور المشهد بملابساته وما أحيط بهما من مخاطر أدّت إلى فزع أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي نال شرف الكناية عنه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى:(( إذ يقول لصاحبه ))

وفي مقام الحديث عن كلام الله تعالى والقرآن الكريم وتنزيله من السماء يتقدم – أيضاً – ذكر العزيز على الحكيم كما في قوله تعالى:(( ولو أنّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم )) ( لقمان 27 )

فلو جعلت الأشجار التي في الأرض أقلاماً لكتابة كلمات الله، وجعل مدادها البحر المتصل بمدار سبعة أبحر أخرى، فإن تلك الأقلام ومعها المداد تنفد دون أن تنفد كلمات الله.

وجاء التعبير بالشجرة على الإفراد دون الجمع لإرادة ( تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلّا قد بريت أقلاماً، فإن قلت:الكلمات جمع كلمة، والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل:كلم الله ؟ قلت:معناه أن كلماته لا تفي بكتابتها البحار، فكيف بكلمه ؟

ومما ورد من تقديم العزيز على الحكيم في مقام ذكر القرآن الكريم وتنزيله، وقوله تعالى:(( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )) ( الجاثية 1-2 ) وقوله تعالى:(( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )) ( الأحقاف 1-2 )

هذا وقد يأتي ذكر ( العليم ) متقدماً على ( الحكيم ) في مواضع أخرى تبعاً لاقتضاء المقام وحاجة السياق، وهذا كثير في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:(( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العزيز الحكيم )) (البقرة 32 )

وقوله تعالى:(( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع ممّا تركن من بعد وصيّة يوصيني بها أو دين ولهنّ الربع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصى بها أو دين وصية من الله والله عليم حليم )) ( النساء 12 )

وقوله تعالى:(( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً )) ( النساء 32 )

فجاء الخبر بـ ( عليم ) والصفة بـ ( حليم ) ليناسب سياق الآية قبلها فقد كانت تتحدث عن الميراث والوصية التي تكون أحد أمرين:عدل أو جور.. فجاء التحذير بأن الله تعالى يطالع على ذلك ويعلمه وهو سبحانه( حليم ) عن الظالم والجائر، فلا يعجل عليه بالعقاب عساه أن يرجع إلى رشده فإذا ظلم في وصيته، وفي الآية نكتة بلاغية أخرى ألا وهي تقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين، فإن وفاء الدين سابق على الوصية، ولكن قدّم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين.

وفي مقام آخر يقول تعالى:(( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم )) ( النساء 26 )

فهو سبحانه عليم بأمور الخلق وما يناسبهم ويصلحهم، وهو يهديهم إلى الرشاد بعلمه المحكم وحكمته البالغة، ولذلك تغاير السياق هنا، وجاءت الحكمة رديف العلم، وجاء الحلم رديف العلم في سياق الآية السابقة للمعنى المشار إليه آنفاً.

وربما جاءت آيات أخرى حاملة في سياقاتها أسلوباً آخر على خلاف ما سبق، تقدّم فيه ( الحكيم ) على( العليم) لعلّة يقتضيها السياق، وذلك نحو قوله تعالى:(( وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم )) ( الأنعام 83 )

فسبق الحكم هنا العلم، لأن المقام اقتضى ذلك من خلال الحديث عن الحكمة التي لقّنها الله تعالى نبيّه إبراهيم، وأشار إليها بقوله:( وتلك ) فاستطاع أن يحتجّ بها على قومه، وكان أن نال من الله الرفعة في الدرجات، وذلك بمقتضى الحكمة الإلهية في تصريف الشؤون والأحوال.

ومثال ذلك قوله تعالى:(( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم )) ( الزخرف 84 )

فاقتضى المعنى أن تسبق الحكمة العلم في هذا السياق أيضاً لأن الآية الكريمة تتحدث عن صفة الألوهية، وما يتصف به الله عز وجل من حكمة في تصريف الكون وتشريع الأحكام.. وقد ( ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله ( في السماء ) ( وفي الأرض )، كما تقول هو حاتم طىّ حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت هو جواد في طى جواد في تغلب.

وقد سبق الحكم العلم أيضاً في موضع آخر في قوله تعالى:(( كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم )) (الذاريات 30 ). فهذا مقام من مقامات التصريف الإلهي العجيب أيضاً وهو يحمل غرابة الموقف واستحالة حدوثه في العرف البشري وكان أن كان، وولدت العجوز من الشيخ الهرم..!

وفي موضع لا نظير له في القرآن يتقدّم (عليّ ) على ( حكيم ) وذلك في قوله تعالى (( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم )) ( الشورى 51 )

والمعنى:تعالى عن أن يكلّم أو يكلّم شفاهاً، حكيم في تقسيم وجوه التكليم  ولتمام هذا المعنى وإحكامه، صُدّرت الآية بأسلوب القصر المتمثل في النفي والاستثناء ثم توالت النكرات في سياقها لإفادة العموم:لبشر وحياً حجاب / رسولاً / وذلك في ظلال الإيقاع الصوتي الناشئ من قوله:وحياً فيوحى، أو يرسل رسولاً.

وفي سورة المجادلة تبادلت الكلمات المواضع تبعاً للمعنى الوارد في السياق ففي قوله تعالى:(( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعلمون خبير )) (المجادلة3) وقال أيضاً في نفس السورة: (( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير )) ( المجادلة 11 ) وقال جل شأنه في نفس السورة أيضاً: (( أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون )) (المجادلة13).

فالموضع الأول والثاني يتعلّقان بالعمل، فلا يمسّ الرجل زوجته التي ظاهر منها إلا بعد تحرير رقبة في الموضع الأول، والثاني يتعلق بعمل التفسّح في المجالس والنشوز والارتفاع عنها... أما الموضع الثالث فلا يتعلق بعمل، وإنما يتعلق بالتخفيف الذي نزل إلى المؤمنين ورفع عنهم أمر الله بتقديم الصدقات عند مناجاة النبي لعلمه سبحانه بمشقّة هذا الأمر عليهم، فهو خبير بالنفوس وخفايا القلوب.

تقديم السمع:

اطّرد تقديم السمع في القرآن الكريم سواء أكان على البصر أو الرؤية أو العلم أو القرب... في شأن الخالق أو شأن المخلوقين... وذلك نحو قوله تعالى:(( قل أرأيتم أن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون )) ( الأنعام 46)

(( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) ( الإسراء 1 )

(( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى )) ( طه 46)

وفي مجال تقديم السمع على العلم وما جرى مجراه قد أتى في اثنين وثلاثين موضعاً، هي كل ما جاء فيه وقدّم السمع على القرب في قوله تعالى:(( قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلىّ ربي إنه سميع قريب )) ( سبأ 50 )

ولا يقف سر هذا التقديم عند تشريف المقدّم على المؤخّر، ولكن المقام يحتمل تفسيراً آخر... فتقديم السمع على البصر لكونه أهم منه، لأن ما يحصل من ضروب المعرفة عن طريق السمع لا يحصل عن البصر، والبصر يتوقف في تحصيله للعم على وسائط لا يتوقف عليها السمع.

وقد ورد في القرآن الكريم بعض آيات تقدّم فيها البصر على السمع لعلّة يحملها السياق ومن ذلك قوله تعالى:(( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليّ ولا يشرك في حكمه أحداً ))      ( الكهف 26 )

فتقدم البصر على السمع على خلاف المعتاد في آيات الذكر الحكيم، لأن الحديث والله تعالى أعلم يختصّ بجناب الله تعالى وقدرته على العلم بدقائق الأشياء فيستوي عنده كل شيء، يقول الزمخشري:وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً وبدرك البواطن كما يدرك الظواهر.

وفي سياق الحديث عن الكافرين خصوصاً في مشهد القيامة وساحة العرض، يتغير أيضاً ترتيب السمع والبصر ليتقدم الأخير، يقول تعالى:(( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً )) ( الإسراء 97 )

وقوله تعالى:(( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون ))  ( السجدة 12 )

فلم يعد هناك وجه انتفاع بسمع يفيد الطاعة والصلاح، بل لعله قدّم البصر في مثل هذه المشاهد لينبئ عن حالهم من الإعراض وعدم الاقتناع اللازم لثبوت اليقين وكأنهم كانوا في ريب من ذلك اليوم، وهاهم أولاء قد رأوه بأعينهم.

الجن والإنس:

الجن والإنس من المخلوقات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم كثيراً، وقد جاءت على غير نسق واحد، بل جاءت بعض السياقات قدّم فيها الجن على الإنس، وأخرى قدّم فيها الإنس على الجن، وذلك تبعاً لاقتضاء المقام وتحرير المعنى، فمن السياقات التي ورد فيها ذكر الجن مقدماً، قوله تعالى:(( ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم )) ( الأنعام 128)

فالخطاب هنا واقع في يوم الحشر، وهو موجّه إلى الجن على سبيل التبكيت على ما فعلوه من الاستكثار من الإنس وغوايتهم ولمزيد من التحقير حذف فعل القول أو النداء والتقدير... ويوم يحشرهم جميعاً فينادي عليهم أو فيقال لهم والله تعالى أعلم.

وفي سورة الذاريات حملت الآية جملة خبرية مقتضاها أن خلق الجن والإنس هو من أجل عبادة الله وحده، فقدّم ذكر الجن لسبقه في الخلق، وذلك في قوله تعالى:(( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) ( الذاريات 56 )

وكذلك الشأن إذا جاء ذكر الإنس مقدماً على الجن ( فلابد من سبب في السياق اقتضى ذلك قال تعالى: (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )) ( الإسراء 88 )

فقدّم الإنس على الجن لأن التحدّي وقع على الناس أولاً حيث أن الرسول مبعوث أصلاً إلى الناس ويعضد التقديم أيضاً ما جاء بعد الآية المذكورة، قال تعالى: (( ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل فأبى أكثر الناس إلّا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً )) ( الإسراء 89-90 )

تقديم السماء على الأرض:

عندما تقدّم السماء على الأرض فهذا هو الأصل الوارد في سياقات القرآن وهو لحكمة يقتضيها السياق ويتطلّبها المقام كقوله تعالى: (( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور )) ( فاطر 38 )

ولا شك في أن ما غاب في السموات كان أعظم وأكثر وأشمل، فقدّم ذكرها ثم قال في نفس السورة:(( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً )) ( فاطر 40 )

فذكرت الأرض أولاً لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير، فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم، ثم قال سبحانه:(( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً )) ( فاطر 41 ) فقدّم السموات تنبيهاً على عظم قدرته سبحانه لأن خلقها أكبر من خلق الأرض.

وبالنظر إلى سياق الآيات السباقة نجد أن السموات مقدّمة على الأرض وهذا هو الكثير المعتاد في آيات القرآن الكريم، وقد تقدّم الأرض على السماء خلافاً لهذا الأصل تبعاً لاقتضاء السياق كما في قوله تعالى:(( الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ))    ( البقرة 22).

والله تعالى أعلم فلعله بدأ بذكر الأرض لأنها أقرب إلى النظر والتأمل وفيها المستقر والمعاش والفراش وقد وردت هذه الآية في سياق توجيه النظر إلى وجوب عبادة الله وحده وشكره على نعمه، فقال تعالى قبل هذه الآية:(( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ( البقرة 21 )

وقوله:(( وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب   مبين )) ( يونس 61 )

لأن الكلام قبل الآية على أهل الأرض، حيث قال تعالى:(( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه )) ( يونس 61 )

وقال الزمخشري:فإن قلت لم قدّمت الأرض على السماء بخلاف قوله تعالى في سورة سبأ:(( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) ( سبأ 3 ) قلت:حق السماء أن تقدّم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله ( لا يعزب عنه ) لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية.

وقدّم ذكر الأرض على السماء أيضاً في سورة إبراهيم في قوله تعالى:(( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )) ( إبراهيم 38 ) فقدّم ذكر الأرض أولاً لأنها خلقت قبل السماء ولأن هذا الداعي في الأرض. وقدّمت الأرض في خمس سور:آل عمران الآية 5 ويونس الآية 61 وإبراهيم الآية 38 وطه الآية 4 والعنكبوت الآية 22. ولم يذكر الكرماني الموضع السادس الوارد في آية 40 من سورة فاطر.

وقد تتقدم الكلمة في القرآن الكريم لاقتضاء المقام وسياق الأسباب التي ينبغي للمتأمل أن يراها ويعلمها كتقديم غض البصر على حفظ الفرج كما في قوله تعالى:(( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ))  ( النور 30 )

فالغض من البصر سبيل عفة الفروج وعفتها وحفظها وهي سبب أيضاً في عدم حفظها، ولهذا قدّم الغض من البصر على حفظ الفروج للتنبيه على شدّة أثرها في إثارة النفس ومن ثم فالحث على فضيلة غض البصر من أجل العفة... وقال الزمخشري فإن قلت:لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج، قلت:لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر.

وقد يكون التقديم لتعظيم المقدّم وتشريفه، بتقديم لفظ الجلالة على الرسول، في قوله تعالى:(( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً )) ( النساء 69 )

وفي الآية الكريمة إجمال في قوله:( أنعم الله عليهم ) ثم تفصيل:( من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) وفيه إثارة ذهنية وتشويق نفسي للوقوف على تعريفهم، فإذا استشرفت النفس لهذا وتهيّأت له، وقفت على الترتيب من حيث العظمة والتشريف... الأول فالأول ( النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ).

وقد يكون التقديم للفت الانتباه لعظم الرسالة وشرفها على النبوة، كما في قوله تعالى:(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى  ألقى الشيطان في أمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم    حكيم )) (الحج 52) فقد ظهر من الآية عدم المساواة في القدر والمنزلة بين الرسول والنبي، فالرسول من جمع إلى معجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول / من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله.

وقد يكون التقديم على عكس ما سبق فيتقدّم ذكر الكلمة من أجل بيان سوء المصير وتحقيره والتنفير منه، وذلك كما في قوله تعالى:(( يوم يأت لا تكلّم نفس إلّا بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد  ( 105) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( 106 ) ) ( هود 105-106 )

فتصدير الآية بكلمة ( يوم ) مع تنكيرها أبلغ في الروع والفزع، وفي نفي الكلام عن النفس على عمومها – كما أفاد التنكير أيضاً – في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء والتعبير بالمضارع ( يأت) لاستحضار الصورة مزيد من إضفاء هذا المشهد بجلاله ومهابته... ثم بعد هذا  الحشد البلاغي يأتي التقسيم والتفصيل:( فمنهم شقي وسعيد ) مع تقديم للشقي للسبب السالف الذكر... وهذا أيضاً فيه إجمال، أتى بعده التفصيل الآخر الذي تناول الشقي بتكرار ذكره وبيان مكانه ( ففي النار ) لتكون وعاء لهم، يعيشون فيها حياتهم بالزفير والشهيق، وهو ما عرفوه في حياتهم الدنيا ومارسوه، ليستحضروا بذلك المشهد الحياة الحقيقية داخل النار – عياذاً بالله –

وقد تأتي الكلمة مقدمة لبيان الترتيب والسبق:

فمن حيث السبق في الزمان:قوله تعالى:(( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي )) ( آل عمران 68 ) ومن حيث السبق في الإيجاد:قوله تعالى:(( لا تأخذه سنة ولا نوم )) ( البقرة 255 ) لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة، ذكره السهيلي وذكر معها وجهاً آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدأ بالأفضل، لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.

وقد تتقدم الكلمة من موقعها في السياق بعدما جاءت في صدر الآية على خلاف ذلك، كقوله تعالى:(( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )) ( البقرة 143 )

فقد تأخّر المتعلّق على شبه الفعل في قوله ( شهداء على الناس ) وتقدّم في قوله ( عليكم شهيداً ) وذلك لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم وليس مجرد إثبات شهادته عليهم.

ومن ذلك قوله تعالى:(( يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )) ( آل عمران 106 )

فصدر الآية جاء في سياق المقابلة على هيئة الإجمال ثم التفصيل الذي بدأ بالذين اسودّت وجوههم، في حين أن البداية كانت بالذين ابيضّت وجوههم، وفي ذلك تلوين للخطاب لإدخال البشر والتفاؤل أو لا لتعظيم هذه الفئة ثم الانتهاء بذكرهم أيضاً تعظيماً وتشريفاً، ولذلك بدأ التفصيل بما انتهى إليه الإجمال والله تعالى أعلم.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:(( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة )) ثم قال جل شأنه:(( الزاني لا ينكح إلى زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك )) ( النور 2- 3 )

قدّم الزانية في السياق الأول لأن الكلام كان عن حد الزنا وهو الجلد، وفيه لفت للنظر وإيحاء للبشر للمحافظة على عفاف المجتمع عن طريق صيانة المرأة، لأنها إذا فسقت كانت سبباً في انتشار تلك الجريمة، أما المقام الثاني فكانت بداية الآية فيه بالرجل ( الزاني ) وهي مسوقة ( لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:(( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرّازقين )) ( الجمعة 11 )

تقدمت التجارة على اللهو أولاً ثم تأخرت ثانياً... ربما كان الاعتبار هنا في هذا المقام على أنها بمثابة الشيء الواحد، لأن السياق أفاد ذمّ هذا الفعل واستنكاره، وبدليل أنه قال ( انفضوا إليها )، ولم يقل انفضوا إليهما، لأن الإنسان إذا ترك خطبة الجمعة وانصرف إلى التجارة فقد فعل اللهو والعبث، فما بالنا إذا كان هذا مع النبي ؟! هذا ومن المعلوم أنه لا يجوز أثناء الخطبة مجرد الكلام أو العبث بالثياب ونحوه، فما الأمر إذا كان الخروج للتجارة التي كان يصاحبها الطبل وقتذاك ؟! فقدّم اللهو في المرة الثانية للتنبيه على قبح فعلهم وشنيعه..

  • المصدر:

موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم