الزمن
 
 

حينما يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، يحكم من خلال مبادئ عقله أن لهذا  الكون خالقاً عظيماً، ومربياً رحيماً ومسيّراً حكيماً، وأن هذا الخالق عظيم في خلقه، كامل في أفعاله، ومن لوازم كماله ألا يدع عباده بلا تعريف، ولا تبيين، ولا منهج من أمر، ونهي، وإعذار، وإنذار، ووعد، ووعيد، ولهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ففي الكتب المنزلة تعريف للإنسان بخالقه ومربيه، تعريف بحقيقة الحياة الدنيا، ومهمة الإنسان فيها.

ولهذا منح الله تعالى عباده في الحياة الإعدادية مقومات التكليف، كون، وعقل، وفطرة، ومنهج، وشهوة، واختيار، كل هذا على مسرح مكاني هو الأرض، وفي ظرف زماني هو العمر، فالعمر رأس مال الإنسان في حياته الدنيا، إذا أنفقه الإنسان في تزكية نفسه كان ثمناً لجنة ربه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ15/51آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ 16/51كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ17/51وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 18/51وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:15- 19].

وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ19/69إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ20/69فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ21/69فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ22/69قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ23/69كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة:19- 24].

قيمة الزمن من خلال سورة العصر:

في القرآن الكريم سورةٌ قصيرةٌ كان الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله تعالى يقول عنها: (لو تدبَّر الناسُ هذه السورة لَكَفَتْهُم).

هذه السورةُ ترسمُ منهجاً كاملاً للحياة البشرية، كما يريدُها خالقُ البشرية، فعلى امتداد الزمان في جميع العصور، وعلى امتداد المكان في جميع الدهور، ليسَ أمامَ الإنسانِ إلا منهجٌ واحدةٌ رابحٌ، وطريق واحد سالك إلى جنّةِ الخُلدِ، وكلُّ ما وراء ذلك ضياعٌ، وخسارةٌ، وشقاء.

إنها سورة العصر، قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ1/103إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ2/103إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3].

لقد أقسمَ اللهُ جلّ جلالُه بمطلق الزمن، العصر، لهذا الإنسانِ الذي هو في حقيقته زمنٌ، فهو بضعةُ أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، وما من يوم ينشقُّ فجرُه إلا وينادي: يا بن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فتزوَّدْ منِّي، فإني لا أعود إلى يوم القيامة.

لقد أقسمَ اللهُ بالزمن للإنسان أنّه في خُسرٍ، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله، ووعاءُ عملِه الصالحِ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه الله بها.

هلِ الخسارةُ في العُرْفِ التِّجاريِّ إلا أنْ تُضَيِّعَ رأسَ مالِكَ دون تحقيق الربح المطلوب، لكنّ الإنسانَ إذا استثمرَ الوقتَ فيما خُلِقَ له، يستطيع أنْ يتلافى هذه الخسارةَ، وذلك بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبّرِ.

 

أولاً: الإيمان، ﴿إِلا الذين آمنوا﴾:

إنّ الإيمانَ هو اتصالُ هذا الكائن الإنسانيّ الصغيرِ، الضعيف الفاني، المحدود، بالأصل المطلقِ الأزليّ الباقي، الذي صدرَ عنه هذا الوجودُ، وعندئذٍ ينطلقُ هذا الإنسانُ من حدود ذاته الصغيرة، إلى رحابةِ الكون الكبير، من حدودِ قوته الهزيلة، إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة، من حدود عمره القصير، إلى امتدادِ الآبادِ التي لا يعلمُها إلا اللهُ، هذا الاتصالُ فضلاً على أنه يمنحُ الإنسانَ القوةَ، والامتدادَ، والانطلاقَ، فإنه يمنحُه السعادةَ الحقيقةَ التي يلهثُ وراءها الإنسانُ، وهي سعادةٌ رفيعةٌ، وفرحٌ نفيسٌ، وأُنْسٌ بالحياةِ، كأُنْسِ الحبيبِ بحبيبه، وهو كَسْبٌ لا يعدِلُه كسبٌ، وفقدانُه

خسرانٌ لا يعدله خسرانٌ، وعبادةُ إلهٍ واحدٍ ترفعُ الإنسانَ عن العبوديةِ لسواه، فلا يذلّ لأحد، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار، فليس هناك إلا قوةٌ واحدةٌ، ومعبودٌ واحدٌ وعندئذٍ تنتفي من حياة الإنسان المصلحةُ، والهوى، ليحلّ محلَّها الشريعةُ والعدلُ والاعتقادُ بكرامة الإنسانِ، وهو من لوازم الإيمان، الاعتقاد بكرامة الإنسان عند الله يرفع من قيمته في نظر نفسه، ويثيرُ في نفسهِ الحياءَ، مِنَ التّدنِّي عنِ المرتبةِ التي رفعهُ اللهُ إليها.

 

ثانياً: العمل الصالح ﴿وعملوا الصالحات﴾:

ولأنّ الإيمانَ حقيقةٌ إيجابيةٌ متحركةٌ، كان العملُ الصالح هو الثمرةَ الطبيعيةَ للإيمان، فما إنْ تستقرَّ حقيقةُ الإيمان في ضمير المؤمن حتّى تسعى بذتها إلى تحقيق ذاتها، في صورة عملٍ صالحٍ، فلا يمكنُ أنْ يظلَّ الإيمانُ في نفس المؤمن خامداً لا يتحرّك، كامناً لا يتبدَّى، فإنْ لم يتحركِ الإيمانُ هذه الحركة الطبيعةَ فهو مزيَّفٌ، أو ميتٌ، شأنُه شأنُ الزهرةِ، ينبعثُ أريجُها منها انبعاثاً طبيعياً، فإنْ لم ينبعث منها أريجٌ فهو غير موجود.

والعملُ الصالحُ ليس فلتةً عارضةً، ولا نزوةً طارئةً، ولا حادثةً منقطةً إنما ينبعثُ عن دوافعَ، ويتّجهُ إلى أهدافٍ، ويتعاونُ عليه المؤمنون.

الإيمانُ ليس انكماشاً، ولا سلبيةً، ولا انزواءً، ولا تقوقُعاً، بل هو حركةٌ خَيِّرَةٌ نظيفةٌ، وعملٌ إيجابيٌّ هادفٌ، وعمارةٌ متوازنةٌ للأرض، وبناءٌ شامخٌ للأجيال، يتّجهُ إلى الله، ويليقُ بمنهج الله، ورَحِمَ اللهُ عمرَ بنَ عبد العزيز إذ يقول: (إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، ويأخذان منك، فخذ منهما).

كلما اتسعتْ رقعةُ العملِ فشملتْ أعداداً كبيرةً من بني البشرِ حتى دخلتْ فيه الأممُ والشعوبُ، وكلّما امتدّ أمدُ العملِ وطالَ حتى توارثتْ ثمارَه أجيالٌ وأجيالٌ، وكلما تغلغلَ العملُ في كيان الإنسانِ كلِّه؛ الماديّ والنفسيّ، والاجتماعيّ، والروحيّ، حتى تحقَّق به وجودُ الإنسان، وتألّقتْ من خلاله إنسانيتُه، وكان كما أريد له أن يكون، إذاً كلما اتسعتْ رقعةُ العمل، وعمَّ خيره، وطالَ أمدُه، واشتدَّ تأثيره، كانَ أعظمَ عندَ اللهِ.

هذه صفاتُ العملِ الصالحِ، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أخرجَ الناسَ مِن الظّلمات إلى النّور، ومِن دَرَكَاتِ الجاهليةِ إلى أعلى مراتبِ الإنسانية، وغيَّر وجهَ التاريخِ البشريّ كلِّه، إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، في ثلاث وعشرين سنة، أقامَ فيها ديناً جديداً، وربَّى عليه جيلاً فريداً، وأنشأ أمّةً مثالّيةً، وأسّسَ دولةً عالمّيةً، في هذا الزمن اليسير، على الرغم مِن كلّ الصعوباتِ والعوائقِ التي اعترضتْ سبيله من أوّل يومٍ.

لقد عَرَفَ صلى الله عليه وسلم قيمة الوقت فجعله ظرفاً لبطولات تعجز عن صنعها المم والشعوب، حتى أقسم الله بعمره الثمين فقال تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر:72].

وربّى عليه الصلاة والسلام أصحابه تربية حملت أحدهم على أن يقول (والله لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً، ولو قيل لي إنك تموت غداً، ما قدرت أن أزيد في عملي شيئاً).

ويزدادُ ثقلُ العملِ في ميزانِ الحقِّ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند الله كلما كثرتْ العوائقُ في سبيله، وعظُمتِ الصوارفُ عنه، وقلَّ المُعينُ عليه.

ويزدادُ ثقلُ العملِ في ميزان الحقِّ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند اللهِ حينما تَفْسُدُ المجتمعاتُ، وتضطرب الأحوالُ، فيجور الأمراءُ، ويتجبّرُ الأقوياءُ، ويترفُ الأغنياءُ، ويداهن العلماءُ، وتشيع الفاحشةُ، ويظهرُ المنكرُ، ويختفي المعروفُ، وفي الحديث عنْ معقلِ بْنِ يَسَارٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «العبادةُ في الهرجِ كهجرةٍ إِلَيَّ».

فإذا رُزقَ الإنسان التوفيقَ في إنفاقِ وقتهِ يستطيعُ أنْ يُطيلَ عمرَه إلى ما شاء الله بعد موته، فيحيا وهو ميت، ويؤدّي رسالتَه وهو تحت التراب، ففي الحديث عن أبي هريرة أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا منْ ثلاثةٍ، إلا منْ صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو لَهُ».

فكيف إن لم يكن له عملٌ أصلاً، ووافتْه المنيّةُ.

وفي حديثٍ آخرَ تضمّنَ تفصيلاتٍ لهذه الثلاثة، فعنْ أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن ممَّا يلحقُ المؤمنَ منْ عملِهِ وحسناتهِ بعدَ موتِهِ علماً علَّمَهُ ونشرَهُ،، وولداً صالحاً تركَهُ، ومًصْحَفاً ورَّثَهُ، أو مسجداً بناهُ، أو بيتاً لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نهراً أجرَاهُ، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحَّته وحياته يلحقُهُ منْ بعد موتِهِ».

وأخرج مسلمٌ في صحيحه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فعُمِلَ بها بعدَهُ كُتِبَ لهُ مثلُ أجرِ مَنْ عَمِلَ بها، ولا ينقصُ منْ أُجورهمْ شيءٌ، ومَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً فَعُمِلَ بها بعدَهُ كُتِبَ عليهِ مثلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بها، ولا ينقصُ مِنْ أوْزَارِهمْ شيءٌ».

فويلٌ، ثم ويلٌ، ثم ويلٌ، لِمَنِ انقضتْ آجالهم، وضلالاتُهم، وآثامُهم باقيةٌ من بعدهم، وهنيئاً، ثم هنيئاً، ثم هنيئاُ لِمَن كانوا تحت الثرى، والناسُ مهتدون بهديهم سعداء بأعمالهم.

قال ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائيه: (رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آمادُه، وقلَّتْ أمدادُه، ورُبَّ عُمُرٍ قليلةٌ آمادُه، كثيرةٌ أمدادُه، ومَنْ بوركَ له في عُمرِه أدركَ في يسير مِنَ الزمنِ المِنَنِ ما لا يدخلُ تحتَ دائرةِ العبارةِ، ولا تلحقُه وَمْضةُ الإشارةِ).

 

ثالثاً: التواصي بالحق ﴿وتواصوا بالحق﴾:

لأنَّ النهوضَ بالحقِّ عسيرٌ، والعوائقَ كثيرةٌ، والصوارفَ عديدةٌ، فهناك هوى النفوسِ، ومنطقُ المصلحةِ، وظروفُ البيئة، وضغوطُ العمل، والتقاليدُ، والعاداتُ، والحرصُ، والطمعُ، وعندئذٍ يأتي «التواصي بالحق»، ليكونَ مذكِّراً، ومشجِّعاً، ومحصِّناً للمؤمنِ الذي يجدُ أخاه معه يوصيه، ويشجِّعه، ويقف معه، ويحرصُ على سلامته، وسعادته، ولا يخذُله، ولا يسلبُه، وفضلاً عن ذلك، فإن «التواصي بالحق» ينقِّي الاتِّجاهاتِ الفرديةِ، ويَقِيها، فالحقُّ لا يستقرّ، ولا يستمرّ إلا في مجتمعٍ مؤمنٍ، متواصٍ، متعاونٍ متكافلٍ، متضامن.

فالمرءُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ يكمِّلُ نفسَه، وبالتواصي بالحقِّ يكمِّل غيره، وبما أنّ كيانَ الأمةِ مبنيٌّ على الدِّينِ الحقِّ الذي جاءنا بالنَّقلِ الصحيح، وأكّده العقلُ الصريحُ، وأقرَّه الواقعُ الموضوعيّ، وتطابقَ مع الفطرة السليمة، فلا بد أنّ يستمرَّ هذا الحقُّ، ويستقرَّ، حتى تشعرَ الأمةُ بكيانها، ورسالتها، «فالتواصي بالحق» قضيةٌ مصيريةٌ، فما لم تتنامَ دوائرُ الحقِّ في الأرض، تنامتْ دوائرُ الباطلِ، «فالتواصي بالحق» يعني الحفاظَ على وجودِه، والأداء لرسالته.

 

رابعاً: التواصي بالصبر ﴿وتواصوا بالصبر﴾:

لقد شاءت حكمةُ الله جل جلاله أنْ تكون الدنيا دارَ ابتلاءٍ بالشَّرِّ والخيرِ، ودارَ صراعٍ بين الحقِّ والباطلِ، لذلك كان التواصي بالصبر ضرورةً للفوزِ بالابتلاءِ، والغلبةِ في الصراع.

إذاً: لا بد مِنَ التواصي بالصبر على مغالبة الهوى، وعنادِ الباطل، وتحملِ الأذى، وتكبّدِ المشقةِ، لذلك يعدُّ الصبرُ وسيلةً فعالةً لتذليلِ العقباتِ، ومضاعفةِ القدراتِ، وبلوغ الغاياتِ، قال تعالى: ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ [النساء:104].

* * *

 

  • المصدر:

- مقومات التكليف: د. محمد راتب النابلسي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم