طرائقُ التفكّرِ من القرآنِ الكريمِ
 
 

أولاً: التفكّرُ في الشيء وأصله: قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق:2].

ثانياً: التفكّرُ في الشيء وعدمه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾ [الملك:30]، تصور بلداً بلا ماء، ما قيمته؟

ثالثاً: التفكّرُ في الشيء وخلاف ما هو عليه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ [القصص:71].

مثالٌ عمليٌ:

إذا أردتَ أن تفكّرَ في آيات الله عز وجل، واخترت آيةً من هذه الآيات، ولتكن العين مثلاً: فكّر من أين نشأتْ هذه العين؟ وكيف تكوّنت شبكيتُها وقزحيتُها؟ وما إلى هنالك، لقد كان الإنسانُ كلُّه- يوماً- علقةً في جدار الرحم.

ثم فكِّرْ في إنسان بلا بصرٍ؛ لو أنّ الله عز وجل خلقنا بلا عينين ما قيمة الأوان؟ ما قيمةُ الأزهارِ والأطيارِ؟ ما قيمةُ الجمالِ كلّه بلا هاتين العينين؟

ثم فكّرْ كيف يكونُ الأمرُ لو لم يكن للإنسان إلا عينٌ واحدةٌ، أو لو لم تكن العينُ في مكانها الآمنِ، فكّر لو أنها كانت في مكانٍ آخرَ، في الصدر مثلاً، أو في الظهر، أو خلفَ الرأس.

 

نماذجُ حياتيّةٌ للتفكّرِ:

إليك هذه النماذج المادية الملموسة للتفكر.

1- جسمُ الإنسانِ:

هناك في حياة كلٍّ منّا آياتٌ معجزةٌ صارخةٌ دالّةٌ على عظمة الله عزّ وجل، منها جسمنا الذي هو أقربُ شيءٍ إلينا، ففي رأس كلٍّ منا ثلاثمئة ألفِ شعرةٍ، لكلِّ شعرةٍ بصلةٌ، ووريدٌ وشريانٌ، وعضلةٌ وعصبٌ، وغدةٌ دهنيةٌ، وغدةٌ صبغيةٌ.

وفي شبكة العين عشرُ طبقاتٍ، فيها مئةٌ وثلاثون مليونَ مستقبلٍ للضوءِ، ما بين مخروطٍ وعُصَيّةٍ، ويخرجُ من العين إلى الدماغ عصبٌ بصريٌّ، يحوي خمسمئة ألفِ ليفٍ عصبيٍّ.

وفي الأذن ما يشبهُ شبكةَ العينِ، فيها ثلاثونَ ألفَ خليةٍ سمعية ٍلنقل أدقِّ الأصواتِ.

وفي الدماغ جهازٌ يقيسُ التفاصيلَ الزمنيَّ لوصولِ الصوتِ إلى كلٍّ من الأذنين، وهذا التفاصيلُ يقلُّ عن جزءٍ من ألفٍ وستمئة جزءٍ من الثانيةِ، وهو يكشفُ للإنسانِ جهةَ الصوتِ.

وعلى سطح اللسان تسعةُ آلافِ نتوءٍ ذوقيّة، لمعرفةِ الطعم الحلوِ، والحامضِ، والمُرِّ، والمالحِ، ثم تنقلُ هذا الطعمَ إلى الدماغ.

وإنّ كلَّ حرفٍ ينطقُ به اللسانُ يسهمُ في تكوينه سبع عشرةَ عضلةً.

مَن يصدِّق أنّ في مخاطيةِ الفمِ، أعني الغشاءَ الداخلي للفم خمسمئةِ ألف خلية!؟ يموتُ في كلِّ خمسِ دقائقَ نصفُ مليونِ خليةٍ في الجدار الداخلي، ليحلّ محلَّها نصفُ مليونِ خليةٍ جديدةٍ.

إنّ كريات الدم الحمراء لو صُفَّ بعضها إلى جانب بعضٍ لزاد طولها على محيط الأرض ستةَ أضعافٍ.

إنّ في كلِّ ميلمتر مكعب من الدم خمسةَ ملايين كريةٍ حمراء!؟ وإنّ كلَّ كريةٍ حمراءَ تجولُ في الدم في اليوم الواحدِ ألفاً وخمسمئة جولةٍ، تقطع فيها ألفاً ومئة وخمسين كيلو متراً.

يضخُّ القلبُ مِنَ الدمِ في عمرٍ متوسطٍ ما يملأ أكبرَ ناطحاتِ سحابٍ في العالم، وينبض في الدقيقة الواحدة من ستينَ إلى ثمانينَ خفقةً، وينبض يومياً مئةَ ألف مرة، يضخُّ مِن خلالها ثمانيةَ آلاف لتر، والمئتا لتر تعادل برميلاً! وقد أجرى بعضُ العلماءِ حساباً عن ضخِّ القلب للدم في العمر فوجده ستةً وخمسين مليون جالون والجالونُ يعادلُ خمسة ألتار.

يستهلك الإنسان في الثانية الواحدة مئةً وعشرين مليونَ خليةٍ.

في دماغ الإنسان أربعةَ عشرَ مليارَ خليةٍ قشريةٍ، ومئةُ وأربعون مليارِ خليةٍ استناديةٍ لم تُعرفْ وظيفتُها بعدُ، وهو أعقدُ ما فيه، ومع ذلك فهو عاجزٌ عن فهمِ ذاته.

وفي الرئتين سبعمئة مليون سنخٍ رئويٍّ، كعنقود العنب، حبّةُ العنبِ في الرئةِ كأنها سنخٌ رئويٌّ، وهذه الخيرةُ لو نُشِرتْ لاحتلَّتْ مساحةَ مئتيْ متر مربّعٍ، وإن هاتين الرئتين تخفقان في اليوم خمساً وعشرينَ ألف مرة، وتستنشقان مئةً وثمانين متراً مكعباً.

وفي الكبد ثلاثمئة مليار خليةٍ، يمكن أن تُجَدَّدَ كلياً خلالَ أربعة أشهرٍ، ووظائفُ الكبد كثيرةٌ، وخطيرةٌ، ومدهشةٌ، حيث لا يستطيعُ الإنسانُ أنْ يعيشَ بلا كبدٍ أكثرَ من ثلاث ساعاتٍ.

إنّ في جدارِ المعدة مليارَ خليةٍ تفرزُ من حمض كلور الماءِ ما يزيدُ على عدة لتراتٍ في اليوم الواحد، وقد جهدَ العلماءُ في حلِّ هذا اللغزِ، لمَ لا تهضمُ المعدةُ نفسَها؟ أليستِ المعدةُ معجزةً!؟.

وفي الأمعاء ثلاثةُ آلافٍ وستمئة زغابةٍ معويةٍ للامتصاصِ في كل سنتمترٍ مربعٍ، وهذه الزغاباتُ تتجدّدُ كلياً كلَّ ثمانٍ وأربعين ساعةً.

وفي الكليتين مليونا وحدةِ تصفيةٍ، طولها مجتمعةً مئةُ كيلو مترٍ، يمرُّ فيها الدمُ في اليومِ الواحدِ خمسَ مراتٍ.

وتحتَ سطحِ الجلدِ خمسةَ عشرَ مليونَ مكيّفٍ لحرارةِ البدنِ، وهي الغددُ العرقيةُ، لكلّ غدّةٍ عرقيةٍ مكيِّفٌ لتكيفِ حرارته، وتعديل رطوبته.

إن جسمنا الذي نحن نعيشُ معه أقربُ شيءٍ إلينا، هذه حقائقُ مسلَّمٌ بها، عرفها الأطباءُ من عشرات السنين، وليست خاضعةً للمناقشةِ إطلاقاً، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21].

العينُ نموذجاً:

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:78]، وقال: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة:9]، وقال عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك:23]، وقافل تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8].

هل فكّرتُم كيف ترونَ بهذه العينِ الصغيرةِ الأشياءَ بحجمها الحقيقيِّ؟ فإنّ أعظمَ آلةٍ للتصويرِ تعطيك صورةً لا تزيدُ على مساحة الكفّ! كيف ترى الجبل جبلاً، والبحرَ بحراً، والشمسَ شمساً؟ كيف ترى الأشياء بحجمها الحقيقيِّ؟ هذا السؤالُ لا يستطيعُ أيُّ عالمٍ أن يُجيبَ عنه حتى الآن.

شيءٌ آخرُ؛ لو أنّنا درَّجْنا اللّون الخضر مثلاً، أو أيَّ لونٍ آخرَ إلى ثمانيةِ ألفِ درجةٍ، فإنّ العينَ السليمةَ تستطيع أن تفرَقَ بين درجتين من هذه الدرجاتِ التي تزيدُ على ثمانيمئة ألفٍ، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8].

شيءٌ آخر، كيف أنّ هذه العينَ تستطيعُ أنْ ترى البُعدَ الثالثَ؟ وهو العمقُ، ترى الطولَ والعرضَ، والعمقَ، لو جعلَ اللهُ لنا عيناً واحدةً لرأينا بها الأشياء مسطّحةً، لا مجسَّمةً بأبعادها الثلاثة، لذلك فالمسافاتُ التي أمامنا لا ندركها إلا بالعينين معاً، أمّا المسافاتُ التي تعترض العينَ فتُدرَكُ بعينٍ واحدةٍ.

شيءٌ رابعٌ، كيف أنّ هذه الصورةَ إذا وقعتْ على الشبكيّةِ تنطبعُ عليها، وتنتقلُ إلى الدماغ في أقلَّ من جزءٍ من خمسينَ جزءاً من الثانية، ففي كلّ ثانيةٍ واحدةٍ تستطيعُ العينُ نقلَ خمسين صورةً إلى الدّماغ، الذي يُدركُ المُرادَ منها، فمتى يتمُّ التحميضُ وإظهارُ الصورةِ؟

شيءٌ آخرُ، وهو أنّ العينَ السليمةَ تستطيعُ أنْ ترى خطَّين بينهما واحدٌ على عشرينَ ميلمتراً، وفي العين أشياءُ وأشياءُ لا يحتملُ هذا المقالُ استيفاءها، فمثلاً في الشبكيّةِ التي لا تزيدُ مساحتها على ميليمتراتٍ، مئةٌ وثلاثون مليونَ عصيّةٍ من أجل الأبيضِ والأسودِ،وسبعة ملايين مخروطٍ من أجل الألوان والتفاصيل، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ8/90وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد:8- 9].

إنّ في العين قرنيّةً شفّافةً شفافيةً تامّةً، فلو غُذّيَتْ هذه القرنيّةُ الشفافةُ عن طريق الشُّعيرات كما هي الحالُ في أيّ نسيجٍ آخرَ في الجسم لكانت الرؤيةُ مُشوّشَةً، ولرأينا شبكةً فوق العين، ولكنَّ القرنيّةَ وحْدها تتغذى عن طريق الحلولِ، أي: إنّ الخليّةَ الخارجيّةَ تأخذُ غذاءَها وغذاء جارتِها من أجل أنْ تبقى الرؤيةُ سليمةً، وسفّافةً، وواضحةً.

والقزحيّةُ، هذه الحدقةُ الملوّنةُ التي تتَّسعُ، وتنقبضُ، تتّسعُ إذا قلَّ النورُ، وتنقبضُ إذا اشتدَّ النورُ على نحوٍ آليٍّ تتّسعُ وتنقبضُ دون أن تعلمَ، والدليلُ على ذلك أنّك إذا دخلْتَ فجأةً من مكانٍ مضيءٍ إلى مكانٍ أقلَّ إضاءةً لم ترَ شيئاً إلا أنْ تتّسع هذه القزحيّةُ على نحوٍ لا إراديٍّ، حيث يقوم جسمٌ بلّوريٌ بعملٍ لا يستطيعُ أن يقومَ به أكبرُ العلماءِ، إنه ينضغطُ، ويتقلَّصُ، ويتمدّدُ، حيث يعلو، والسائلُ الزجاجيُّ له ضغوطٌ معيَّنةٌ.

2- الكونُ:

يقولُ الحقُّ جلّ وعلا، الذي خلق السماوات والأرض بالحق: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53].

والحقُّ هو القرارُ والثباتُ، والسموُّ والعلوُّ، ونقيضه الباطلُ، وهو الزوالُ، والزهوقُ، والتردِّي والعبثُ، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾، فأين هي آياتُ اللهِ في الآفافِ؟

ورد أنّ عددَ النجوم في السماء بعدد ما في الأرض من مدرٍ وحجرٍ، أي بعدد ذرات التراب والحجارة، فعلماء الفلك في الماضي كانوا يعدُّون النجوم بالألوفِ، وبعد أنِ ارتقتْ كفاءةُ مراصدهم صاروا يعدُّونها بالملايينِ، ثم وصلوا إلى الملياراتِ؛ أي: ألوف الملايين، أما اليومَ فإنهم يقدّرون عددَ النجومِ في مجرَّتنا دربِ التَّبابنة، من خلالِ المراصدِ العملاقة بثلاثين ملياراً علماً أنّ مجرَّتَنا مجرةٌ متوسطةٌ في حجمها، وهي واحدةٌ من عشرات ألوف الملايين من المجراتِ، التي لا يعلم عددَها إلا اللهُ، لقد صدق اللهُ العظيمُ إذ يقول: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق:6].

هذا عن عدد النجوم، فماذا عن حجومها!؟

إنّ حجم لأرض يساوي مليونَ مليونِ كيلو متر مكعب، وإنّ الشمسَ تكبرُ الأرضَ بملونٍ وثلاثمئة ألفِ مرة، وإنّ المسافةَ بينهما مئةٌ وخمسون مليونَ كيلو متر، وإنّ نجماً من النجومِ في برج العقرب يتّسعُ للأرضِ والشمسِ مع المسافةِ بينهما، وإن نجماً اسمه منكبُ الجوزاءِ يزيدُ حجمُه على حجمِ الشمس بمئةِ مليونِ مرة، لقد صدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47].

هذا عن أعدادِها وأحجامِها، فماذا عن المسافاتِ بينها؟

إنّ ما بينها من مسافاتٍ تقدر بالسنين الضوئية، فالضوءُ يقطعُ في الثانية الواحدةِ ثلاثمئة ألف كيلو متر، إذاً فهو يقطعُ في السنةِ عشرةَ آلاف مليارٍ من الكيلو مترات، فإذا علمنا أنّ القمرَ يبعدُ عنّ ثانيةً ضوئيةً واحدةً، وأنّ الشمسَ تبعدُ عنا ثماني دقائق ضوئيةٍ، وأنّ المجموعةَ الشمسيةَ لا يزيدُ قطرُها على ثلاث عشرة ساعةً ضوئيةً، وأنّ أقربَ نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض يبعدُ عنّا أربعَ سنواتٍ ضوئيةٍ، ولكي نعلمَ ماذا تعني أربعُ سنواتٍ ضوئيةٍ نقول:

لو اتّجهنا إلى هذا النجمِ بمركبةٍ تساوي سرعتُها سرعةَ مركبةِ القمرِ لاستغرقتِ الرحلةُ أكثرَ من مئةِ ألف عام، ولو ساوتْ سرعةُ هذه المركبةِ سرعةَ السيارةِ لاستغرقتِ الرحلةُ هذه قريباً من خمسين مليونَ عامٍ! هذا ما تعنيه أربعُ سنواتٍ ضوئيةٍ!!.

فما القول في سديم المرأة المسلية، التي تبعدُ عنّا مليوني سنةٍ ضوئيةٍ؟ بل ما القولُ في مجرةٍ اكتشفتْ حديثاً، تبعدُ عنا عشرين ألفَ مليون من السنواتِ الضوئيةِ؟ لقد صدق الله العظيمُ إذ يقول: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ75/56وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة:75- 76]. هذا ولم نتحدثْ عن حركات النجوم، وسرعتها العالية، ولا عن مداراتها الواسعة، ولا عن شدّتها، ولا قوّةِ إضاءتها، ولا عن قُوى التجاذبِ التي تربطُها، ولا عن توازنها الحركيِّ، وعلى كلٍّ فالعجزُ عن الإدراك إدراكٌ، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67].

البعوضةُ نموذجاً:

من آيات اللهِ الدالَّةِ على عظمته قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26].

إذا وقفتْ بعوضةٌ على يدك قتلتها، ولم تشعرْ بشيءٍ، وكأنّ شيئاً لمْ يحدُثْ، لِهَوَانِها عليك، حتى إنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: «لوْ كانتِ الدنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربةَ ماءٍ».

إنّ في رأس البعوضة مئة عينٍ، ولو كُبِّر رأسُ البعوضةِ بالمجهر الإلكترونيِّ لرأينا عيونها المئة على شكل خليةِ النحلِ، وفي صدر البعوضة ثلاثةُ قلوبٍ، قلبٌ مركزيٌّ، وقلبٌ لكلِّ جناح.

وهي تملك جهازاً لا تملكه الطائراتُ الحديثةُ، إنه جهاز (رادار)، أو مستقبلاتٌ حراريَّةٌ، بمعنى أن البعوضة لا ترى الأشياء بأشكالها وألوانها، بل بحراراتِها، فلو أنّ بعوضةً وُجدتْ في غرفةٍ مظلمةٍ لا ترى فيها إلا الإنسان النائم، لأن حرارتَه تزيدُ على واحدٍ من الألف من درجة المئوية.

والبعوضةُ تملك جهازاً لتحليل الدم، فما كل دمٍ يناسبها، فقد ينام طفلانِ على سريرٍ واحدٍ، وفي الصباح تجد جبينَ أحدِهما مليئاً بلسعات البعوضة، أمّا الثاني فلا تجد أثراً للسع البعوض فيه.

والبعوضةُ تملكُ جهازاُ للتخديرِ، فلو غرست خرطومها في جلد النائم لقتلها، ولكنها تخدِّرُ موضعَ لسْعِها، وحينما يزولُ أثرُ المخدِّرِ يشعرُ النائم بألم اللسع، في حين أنّ البعوضة تطيرُ في جوِّ الغرفةِ. وتملك البعوضةُ جهازاً لتمييع الدمِ الذي تمتصُّه من الإنسان، حتى يتيسَّرَ له المرورُ عبر خرطومها الدقيق.

وللبعوضةِ خرطومٌ، فيه ستّ سكاكين، أربع سكاكينَ تُحدثُ في جلد الملدوغ جرحاً مربَّعاً، ولا بد مِن أن يصلَ الجرحُ إلى وعاءٍ دمويٍّ، والسكِّينتانِ الخامسةُ والسادسةُ تلتقيان لتكوِّنا أنبوباً لامتصاصِ دم الملدوغِ.

ويرِفُّ جناحا البعوضةِ عدداً كبيراً من المرَّاتِ في الثانية الواحدة، حيث يصلُ هذا الرفيفُ إلى درجة الطنينِ.

وفي أرجُلِ البعوضةِ مخالبُ إذا أرادتْ أنْ تقفَ على سطحٍ خشنٍ، ولها محاجمُ إذا أرادتْ أن تقفَ على سطحٍ أمْلسَ.

وتستطيعُ البعوضةُ أنْ تشمَّ رائحةَ عرقِ الإنسان من مسافة ستينَ كيلومتراً.

قال تعالى: ﴿* إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26].

قال ابن القيم رحمه الله: «قوله تعالى: ﴿* إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، الآية، وهذا جوابُ اعتراضٍ اعتراضَ به الكفارُ على القرآن، وقالوا: إنَّ الربَّ أعظمُ من أنْ يذكرَ الذبابَ والعنكبوتَ، ونحوها من الحيوانات الخسيسةِ، فلو كان ما جاء به محمَّدٌ كلامَ اللهِ لِمَ يذكرُ فيه الحيواناتِ الخسيسةَ فأجابهم اللهُ تعالى بأنْ قال: ﴿* إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، فإنَّ ضربَ الأمثالِ بالبعوضةِ فما فوقها إذا تضمَّنَ تحقيقَ الحقِّ، وإيضاحَه، وإبطالَ الباطلِ وإدحاضَه كان مِن أحسنِ الأشياءِ، والحسنُ لا يُسْتَحْيَا منهُ».

إنّ البعوضةَ ليست أقلَّ شأناً مِنَ الحوتِ الأزرقِ الذي يبلغُ وزنُه أكثر من مئةٍ وخمسين طناً، ويستهلكُ وليده في الرضعة الواحدةِ ثلاثمئة كيلو، حيث تعادل ثلاث رضعاتٍ من الحليب يومياً طنّاً واحداً، وإذا أراد الحوتُ أنْ يأكلَ أكلةً متوسطةً يملأُ بها معدتَه يحتاجُ إلى أربعة أطنانٍ من السمكِ، وهذه وجبةٌ ليست دسمةً، وليس خَلْقُ البعوضةِ بأقلَّ مِن خلق الحوتِ، والدليل قوله تعالى: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ [الملك:3]، وقوله سبحانه: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه:49- 50].

إنّه خلقٌ كاملٌ؛ بدءاً من الفيروساتِ التي لا تُرى إلا بالمجاهرِ الإلكترونيةِ، وهناك مخلوقاتٌ أدقُّ من ذلك، وانتهاءً بالمجراتِ التي تبعدُ عنا ملياراتِ السنواتِ الضوئيةِ، ذلكم اللهُ ربُّ العالمين، من الذَّرةِ إلى المجرةِ، نظامٌ واحدٌ، إتقانٌ واحدٌ، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل:88].

 

  • المصدر:

- مقومات التكليف: د. محمد راتب النابلسي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم