سورة الإسراء وما تضمه من إعلانات تاريخية صارخة
 
 

إن سورة الإسراء- التي تتضمن قصة الإسراء- تضم إعلانات صارخة لافتة يبتدئ بها عهد جديد في تاريخ الأديان، وفي مصير الأمم.

تضم هذه السورة الكريمة إعلاناً بانقضاء عهد قيادة بني إسرائيل الدينية والخلقية وسيادتهم الروحية والسياسية التي أكرموا بها بفضل النبوة والملوكية اللتين اجتمعتا فيهم، وظلوا يتمتعون بها دهراً طويلاً، ثم سجلوا على أنفسهم من المآسي والمهازل وتبديل نعمة الله، وسوء استعمال مواهبهم ونقض الميثاق الذي أخذ منهم، والإفساد في الأرض مرة بعد مرة والعلو الكبير، ما أوجب انتزاع هذا المنصب الجليل والكرامة التي ليس فوقها إلا النبوة، ونقلها إلى الذين كان يعيرهم اليهود بالأمية وينظرون إليهم بعين الاحتقار.

وتضم هذه السورة الكريمة وقصة الإسراء إعلاناً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى الأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته، وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان.

وضمت هذه السورة الكريمة إعلاناً آخر ليس بأقل أهمية وقيمة من «الإعلانين» الأولين، وهو تحديد شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتحديد زعامته وإمامته، وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وتحديد رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم.

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم- بالقوى التي جبل عليها والمواهب التي خص بها والفرص التي أتيحت له- من أجدر الناس بقيادة شعب أو بلاد، ومن أجدر الناس بزعامة أمة تخلفت في الحياة، أو عاشت في عزلة عن العالم، ومن أقوى الزعماء والقادة وأقدرهم على نفخ روح جديد، وافتتاح عهد سعيد في أمة كالأمة العربية، وفي بلاد كالجزيرة العربية وما أجدره بأن ينظر إليه من تسره عظمة العرب، ومن يهمه مجد العرب، كمؤسس للأمة العربية الجديدة، ومؤسس للإمبراطورية العربية الجديدة، ومؤسس للمجتمع العربي الجديد، فقد كان هذا وأكثر وأعظم، فعلى يده ويد أتباعه قامت الإمبراطورية العربية العظمة التي لم يحلم بها كبار الطامحين في العرب، وعلى يده ويد أتباعه قام المجتمع العربي الجديد الذي ولد ثقافة وولد فلسفة، وولد حضارة كل منها جديد، وكل منها مفيد.

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم جديراً كل الجدارة بأن ينظر إليه من هذه الناحية، وتتشرف الزعامة القومية بالانتساب إليه، وأن تعتبره بطلاً من أبطالها، فليس أحد أعظم فضلاً وأكرم يداً على الأمة العربية والمجتمع العربي من هذه الشخصية الكريمة الفريدة.

ولكن جاء «الإسراء» خطاً فاصلاً بين هذه الناحية الضيقة المحلية المؤقتة وبين شخصيته النبوية الخالدة العالمية، إذا كان الرسول- عليه الصلاة والسلام- زعيم أمة، أو قائد إقليم، أو منقذ عنصر، أو مؤسس مجد، لم يكن في حاجة إلى الإسراء والمعراج، ولم يكن في حاجة إلى سياحة في عالم الملكوت، ولم يكن في حاجة إلى أن تتصل بسببه الأرض بالسماء اتصالاً جديداً، لقد كان له في أرضه التي يعيش فيها، وفي محيطه الذي يكافح فيه، وفي مجتمعه الذي يسعى لإسعاده غنى وسعة، لا يفكر في غيره، ولا يتجاوزه إلى رقعة أخرى من الأرض فضلاً عن السموات العلى وسدرة المنتى، وفضلاً عن المسجد الأقصى الذي يبعد عن بلده بعداً كبيراً، والذي كان في ولاية الديانة المسيحية، وحكومة الأمة الرومية القوية.

وجاء الإسراء وأعلن أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس من طراز القادة والزعماء الذين تتجاوز مواهبهم وجهودهم ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد ولا تسعد بهم إلا الشعوب التي يولدون فيها، والبيئات التي ينبعون منها، إنما هو من طراز الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق، وتسعد بهم الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها، وعهودها وأجيالها.

وإذا كان منصب القيادة العالمية والسيادة الروحية والسياسية قد نقل إلى أتباعه- وعلى رأسهم وفي مقدمتهم العرب- كان ذلك إيذاناً بأن العرب سيكون لهم شأن آخر، إنهم ينتقلون الآن- بفضل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم- من قيادة لا تتجاوز حدود الجزيرة- إن توسعت كثيراً- إلى قيادة تشمل العالم كله وتشمل الإنسانية كلها، إنهم لا يفكرون بعد الآن في القبائل والفصائل، وفي ربيعة ومضر، وفي عدنان وقحطان، إنهم يفكرون الآن في قضايا النوع البشري كله وسعادته وشقائه إنهم لا يكافحون الآن للإنصاف لقبيلة من قبيلة، والانتصار للواء دون لواء، أو لجمع القبائل المتناحرة المتنافسة تحت لواء عربي واحد، وتحت سيادة زعيم واحد، إنهم يفكرون الآن في جمع شتات الإنسانية وشملها، وإيجاد الوحدة والمحبة والثقة والصفاء في قلوبها المختلفة، وأهوائها المتشتتة، وكلماتها المتعددة، وشعائرها المتضاربة، إنهم منذ اليوم لا يعيشون لأنفسهم، ولا يكافحون لمصالحهم، إنهم سيعيشون للإنسان أينما كان، ويكافحون للإيمان إلى أقصى المكان وإلى آخر الزمان، لقد ربطت ناصية الإنسانية وسعادتها بناصيتهم، وكتبت لهم الوصاية العادلة الفاضلة على العالم كله.

ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على أثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونادت به سورة الإسراء وقصة المعراج في لغة صريحة بليغة وفي أسلوب مبين مشرق، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب، نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها؛ أصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ العرب وفاجأ العالم يقولون بكل وضوح وشجاعة لإمبراطورية المملكة الفارسية العظيمة وأركان دولته: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العالم إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».

نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا إلى سعتها ثم أخرجوا الأمم من ضيق الدنيا إلى سعتها آخراً، وهل أضيق من الحياة القبلية والجنسية، وأوسع من الحياة الإنسانية الآفاقية، وهل أضيق من الحياة التي لا يفكر فيها إلا في المادة الزائلة والحياة الفانية، ولا يجاهد إلا في سبيلها، وأوسعها من الحياة الإيمانية والروحانية التي لا نهاية لها ولا تحديد.

لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب، ومن ضيق الحياة فيها، ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها، ومن ضيق التناحر على سيادتها، ومن ضيق التكالب على حطامها القليل، وملكها الضئيل؛ وعيشها الذليل، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية، ليس الدانوب الفائض، والنيل السعيد، والفرات العذب، والسند الطويل، إلا سواقي حقيرة وترعاً صغيرة فيه، واسيت جبال الألب وبرانس وقمم همالايا إلَّا تلالاً متواضعة وسدوداً صغيرة، وليست البلاد الواسعة كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة ونقطاً مغمورة في هذا العالم، وليست هذه الأرض كلها- إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة- إلا خريطة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء، وليست الأمم الكبيرة مع ثقافاتها وحضاراتها وآدابها إلَّا أسراً صغيرة في أمة كبيرة.

لقد قام هذا العالَم الكبير على أساس العقيدة الواحد والإيمان العميق، والصلة الروحية القومية فكان أوسع عالم عرفه التاريخ، وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ تنصهر فيها الثقافات المختلفة والعقول المختلفة والعبقريات المختلفة، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية، وتتكون منها عبقرية واحدة هي العبقرية الإسلامية التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصهم عدد، وفي المآثر الإسلامية- بين علمية وعملية- التي لا يستقصيها التاريخ.

لقد كانت- ولا تزال- قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية واحتضنوها وتبنوها وتفانوا في سبيلها، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير، وخضعت للغتهم اللغات، ولثقافاتهم الثقافات. ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى أقصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشؤوا عليها ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبنائها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقدتهم، وكانت ثقافتهم هي الثقافة العالمية، وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلى التي يتنبَّل الناس ويتظرفون بتقليدها، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى، وقد يطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات اسم «الجاهلية» و«العجمية»، وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها.

وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة، والناس لا يفكرون في ثورة عليها، وفي التخلص منها، كما هي عدة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها، في كل عهد وفي كل ناحية، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر، إنما هي صلة المتدين بالمتدين، وصلة المؤمن بالمؤمن، وعلى الأكثر إنما هي صلة التابع بالمتبوع الذي سبقه بمعرفة الحق ولإيمان والتفاني في سبيلها، فلا محل للثورة، ولا محل للتذمر، ولا محل لنكران الجميل، إنما اللائق أن يعترفوا لهم بالفضل وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء وأن يقولوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:10].

هكذا كان، فقد ظلت هذه الأمم المفتوحة تعتبر العرب المنقذ الوحيد من الجاهلية والوثنية، والداعي إلى دار السلام، والقائد إلى الجنة؛ والمعلم للإنسانية الرفيعة، والأستاذ في الأخلاق الفاضلة، والعلوم الصحيحة.

هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية وأعلنتها سورة الإسراء وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ويعضوا عليها بالنواجذ، ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب ويوصى بها الآباء والأبناء، ولا يجوز لهم في شريعة العقل والدين والغيرة- أن يتخلصوا عنها في زمن من الأزمان، ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة فضل، وليس في غيرها عوض عنها وكفاية، وهي القيادة التي تشمل جميع أنواع القيادة والسيادة، وهي تسيطر على القلوب والأرواح، أكثر من سيطرتها على الأجسام والأشباح.

إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول «الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها، وتبنيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة» وبذلك- من غير قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها- تخضع لهم الأمم الإسلامية في أنحاء العالم، وتتهالك على حبهم وإجلالهم وتقليدهم، وبذلك تنفتح لهم أبواب جديدة، وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربها، الميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمريه، ثارت عليهم، وتدخل أمم جديدة في الإسلام، أمم فتية في مواهبها وقواها وذخائرها، أمم تستطيع أن تعارض أوربة في مدنيتها وعلومها وصناعتها وسيطرتها، إذا وجدت إيماناً جديداً، وديناً جديداً وروحاً جديداً، ورسالة جديدة.

إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة؟! وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم الذي جرف بالأمس المدنيات والحكومات، في حدود هذا الوادي الضيق تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضاً؟!

إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته، وقد كانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعاً، وفي مصيركم ومصير الأمم جميعاً، احتضنوا هذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها وأخلصوا لها من جديد وجاهدوا في سبيلها من جديد.

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج:78].

* * *

* المصدر:

- دراسات قرآنية: الشيخ أبو الحسن الندوي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم