سورة الفَاتِحة جَمالها وجَامعيتها وتأثيرها في الحياة في الحيَاة
 
 

تأَمَّل في سورة الفاتحة، التي هي الدُّرَّة الفريدة في المعجزات السماوية، وقطعة رائعة من القطع القرآنية البيانية، لو اجتمع أذكياء العالم وأدباء الأمم، وعلماء النفس وقادة الإصلاح وزعماء الروحيانية، على أن يضعوا صيغة يتفق عليها أفراد البشر على اختلاف طبقاتهم، وعلى تَنوُّع حاجاتهم، وعلى تشتُّت خواطرهم يتقدمون بها أمام ربهم، ويتعبّدون بها في صلواتهم، تُعبِّر عن ضمائرهم ومشاعرهم وتفي بحاجاتهم وأغراضهم؛ لما جاؤوا بأحسن منها: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:88]، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر:87].

وقد افْتُتِحَتْ بالحمد، وهي الكلمة الجامعة بين الشكر والثناء، ومن الكلمات البليغة المعجزة، التي لا يمكن ترجمتها في لسان آخر، والحمد خير ما يبتدئ به عبد عرف نعم الله التي لا تحصى، وعرف قدْره، وهو خير ما يفاتح به في هذا الموقف الشريف، وفي هذا المقام المحمود.

ثم يقرر المصلّي أن الرب الذي يحمده، ويقوم يستعين به ويعبده، هو ليس رب قبيلة أو شعب، أو أسرة أو فصيلة، أو بلد ووطن، إنما هو رب العالمين، العقيدة الغريبة الثائرة، التي تثور على جميع التقسيمات المصطنعة المزوّرة، التي جنَتْ على الإنسانية أكبر جناية.

وهكذا يعلن المسلم وحدتين، وهما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام الإسلام، في كل زمان ومكان، وهما وحدة الربوبية، والوحدة البشرية، وحدة نسل بني آدم من غير فرق بين بلد ووطن، أو لون أو دم.

فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين، مرة- وهي الأساس- لأن الرب واحد، ومرة ثانية لأن الأب واحد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعوبًا ُوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، وفي شرحه وتطبيقه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: «إن الله قد أذهب عنكم عُبْيَة الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».

ثم يذكر المصلي من صفات الرب الكريمة، الكثيرة، التي عرفها وآمن بها، صفة الرحمة التي هي من أليق الصفات- وكلها لائقة كريمة- بهذا الموقف الذي يقفه المسلم عابداً خاشعاً، داعياً مبتهلاً، محتاجاً فقيراً تائباً آيباً، والمقام مقام الرجاء لا اليأس، ومقام التفاؤل لا التشاؤم.

ثم يذكر ويتذكر يوم الدين، يوم الجزاء والعقاب، الذي يتجلى فيه مُلكُ الله وملكوته، في أروع مظهر، لا ينازعه فيه ملك زائف أو حكم عارض: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر:16]، فيجدد في نفسه الإيمان بالآخرة واستحضارها الذي هو مصدر الخوف والمراقبة، وصدر الرقابة على النفس والضمير، وما أحوج المسلم- وهو الذي يستقبل الحياة المليئة بالإغراءات، ويخوض فيها- إلى هذا الاستحضار.

ثم يعلن في كل تأكيد عرفته لغة العرب التي نزل فيها القرآن، واختيرت لتكون لغة الصلاة العالمية- الرسمية- وفي أبلغ أسلوب من الأساليب البيانية العربية، أنه لا يعبد إلا الله ولا يستعين إلّا به، وما الحياة إلّا عبادة واستعانة، وبهما يتصل الإنسان بالإنسان، والضعيف بالقوي، والفقير بالغنيّ، والمحكوم بالحاكم، والعبد بالمعبود، فإذا جُرِّدتا وأُفرِدتا لله تعالى، فُكت السلاسل والأغلال، وحُطِّمت الأوثان والأصنام، وبطل الشرك وزالت الفتنة، وكان الدين كله لله. أعظم إعلان يعلنه مسلم، وأكبر تعهد يتعهده، فلينظر ما يقول، وليكن على نفسه حسيباً رقيباً، فكل ما يواجهه في الحياة خارج الصلاة: إما يدعوه لخضوع واستكانة، وإما يدعوه لسؤال واستعانة، وقد كفر بهما جميعاً، وثار على كل من تزعَّمهما، أو تظاهر بهما.

ثم يدعوه للهداية للصراط المستقيم، التي هي أعظم حاجاته، وأعز مطالبه، وهي بُعثت لها الأنبياء وأُنزلت لها الصحف، وقامت عليها سُوق الجنة، وهي التي لا قيمة لشيء إذا فُقِدت، ولا نقص في الحياة والسعادة إذا وجدت، وهي التي فطرت النفوس البشرية على حُبّها وطلبها والبحث عنها، والجهاد في سبيلها. ولكن الهداية لا تقوم في الخلاء، ولا تُفهم إلّا بأهلها، ولا تتمثل إلّا في أصحابها، وأولئك هم الذين أنعم الله عليهم: ﴿مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء:69]. وقد حثّ القرآن- وجميع الصحف السابقة- على حبهم والانتساب إليهم، والانضواء إلى رايتهم، والاقتداء بهديهم: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90]، ويتبع ذلك التبرُّؤ من الذين جانبوا الهداية وكفروا بالنعمة واتبعوا الهوى، وسلكوا طريق الردى، أولئك الذين أسرقوا في العناد، وبالغوا في الإفراط، فحلَّ عليهم غضب الله، أو بالغوا في التحريف وتورَّطوا في التفريط، فَوقعوا في الضلال: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ6/1صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6-7].

وهنا يتجلَّى إعجاز القرآن، وإني أعتقد أن الكلمة الواحدة التي جاءت في القرآن الكريم، تصف أبناء المسيحية، تكفي سبباً في إيمان دارس منصف بالقرآن وإعجازه، وأنه يصدّق النبيّ الأُميّ الذي نزل عليه، وكونه منزّلاً من عند الله عزّ وجلّ. ما أروع الحقيقة التاريخية التي نطق بها القرآن الكريم على لسان أمّي، ولد في الصحراء وعاش فيها، والتي يصدّقها التاريخ في أدب جمّ، وفي خضوع وانقياد واستسلام، ويدهش المؤرخون عندما يفكّرون في مدى صدق هذا التعبير: كلمة «الضَّلالة».

فقد تُفهم منها معانٍ كثيرة، منها فساد العقيدة وفساد الجهل والانحراف، والحيد عن الطريق، وما إليها، وكلها ضلال، ولكن كلمة الضلالة أعمق معنى، وأقوى أثراً، وأبعد مدى من هذا الضلال الجزئي المحدود. إن دراسة الإنسان التاريخية وقوّته الاستنتاجية وقدرته على استخلاص النتائج الصحيحة تعود حائرة ومنقادة عندما تلاحظ أن النبيّ الذي لم يدرس تاريخ المسيحية قطّ، ولم تكن لديه وسائل معلومات عنها، ولم تثبت عنه زيارة بلد مسيحيٍّ إلّا لساعات معدودات، كيف أجرى الله على لسانه الحقيقة الكبرى الصادقة حيث قال بالنسبة لليهود: ﴿المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ بينما قال بالنسبة للمسيحيين: ﴿الضَّالِّينَ﴾.

إن هذه الكلمات وحدها تكفي دلالة على كون القرآن الكريم منزّلاً من الله عزّ وجلّ، وكونه وحياً إلهياً، حيث كان بالإمكان أن تستخدم للمسيحيين عشرات من كلمات اللغة العربية، فقد كانت من سعتها بالمكان الذي كان بالإمكان فيه أن تستخدم خمسون كلمة تؤدي هذا المعنى، وكان بالإمكان أن تنطبق جميعاً على المسيحيين.

غير أن الله أراد فرقاً واضحاً مكشوفاً بينهم وبين اليهود، إذ أطلق على اليهود: ﴿المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ﴾، فمن قرأ تاريخهم شهد في ضوء التاريخ وفي ضوء اعترافاتهم أنفسهم، ونظراً للأثر السلبي التخريبي الذي تركوه على الأخلاقيات والاتجاهات والممارسات البشرية، والمجتمع البشري، ونظراً لما عاملهم به الله عزّ وجلّ، والعصيان والبغي اللذين تميَّزوا بهما عبر التاريخ، وحُرموا من أجله نصر الله وعونه- بأنه لا تنطبق عليهم كلمةٌ انطباقَ ﴿المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ﴾.

أما من درس تاريخ المسيحيين فإنه يشهد بأنه لا تنطبق عليهم كلمةٌ مثل انطباق ﴿الضَّالِّينَ﴾ عليهم، فقد كان شأنهم شأن سالك للطريق، يترك الطريق المستقيم المؤدي إلى غايته، ويأخذ طريقاً معاكساً يسلك به إلى الوراء، ولا يزال يواصل السير عليه فيزداد بُعداً على بُعد عن غايته المتوخّاة، وكما يقول الشعر العربي:

شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ

فقد امتحنت المسيحية في عهدها الباكر- يعني في منتصف القرن الأول المسيحي- بتحريف لا يوجد له نظير في التاريخ الديانات في عهدها الأول، فقد انتقلت من ديانة بسيطة توحيدية إلى ديانة وثنية تتركب من الأفكار اليونانية والبوذية، وذلك على يد داعيها الكبير وبطلها العظيم بولس(Saint Paul) (10- 65م). وكان هذا الانتقال أشبه بقفزة من روح إلى روح ومن وضع إلى وضع ومن نظام إلى نظام، لا يشارك الثاني الأول إلّا في الاسم وبعض الطقوس. ويتحدث عنه عالِم مسيحي (Ernest De Bunsen) فيقول: (إن العقيدة والنظام الديني الذي جاء في الإنجيل: ليس الذي دعا إليه السيد المسيح بقوله وعمله، إنّ مَرَدَّ النزاع القائم بين المسيحيين اليوم وبين اليهود والمسلمين ليس إلى المسيح، بل إلى دهاء بولس، ذلك المارق اليهودي والمسيحي، وشرحه للصحف المقدسة على طريقة التجسيم (Essene) والتمثيل، وملئه هذه الصحف «بالنبوءات» والأمثلة. إن بولس في تقليده لأسطفانوس (Stephen) داعي المذهب الإنساني قد ألصق بالمسيح التقاليد البوذية، إنه واضع ذلك المزيج، من الأحاديث والقصص المتعارضة التي يحتوي عليها الإنجيل اليوم، والتي تعرض المسيح في صورة لا تتفق مع التاريخ أصلاً. ليس المسيح، بل بولس والذين جاؤوا بعده من الأحبار والرهبان: هم الذين وضعوا تلك العقيدة والنظام الديني الذي تلقاه العالم المسيحي كأساس للعقيدة المسيحية الأرثوذكسية خلال ثمانية عشر قرناً).

* * *

 * المصدر:

- دراسات قرآنية: الشيخ أبو الحسن الندوي.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم