تأملات إيمانية في سورة الشمس
 
 

القرآن الكريم هو كتاب الله ورسالته الخاتمة .. أنزله الخالق إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراطه المستقيم .. فصلت آياته بعلمه الذي سخر به كل ما في الكون لطاعته و بحكمته التي أخضعت كل شيء لقوانين رحمته .. كل آية من آياته تحوى إعجازا لا يتطاول إليه أحد من خلقه على مدى العصور ... ونقف اليوم أمام أول آيات من سورة الشمس ... وفيهـا توجيه من الخالق أن ينظر الإنسان إلى آيات الله في الآفاق وفى نفسه .. آيات حددهـا الخالق في تسلسل إلهي حكيم من تدبير رب العالمين .. حيث جاء يقول الحق:  والشمس وضحـاهـا، والقمر إذا تلاهـا، والنهـار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاهـا، ونفس وما سواهـا، فألهمهـا فجورها وتقواهـا، قد أفلح من زكاها، و قد خاب من دسهـا ...

هكذا تبدأ السورة الكريمة بكلمة الشمس وسميت كذلك بالشمس، فالشمس هي النجم الذي تدور حوله وتتعلق به أرضنا في الفضاء، بخيوط تجذبهـا إليهـا، خيوط لا نراهـا ولكن نؤمن بوجودهـا، أطلق عليهـا العلماء خيوط الجاذبية ، وحاولوا أن يجدوا لها القوانين التي تحدد قيمتهـا على هذا الأساس، ولكن من الذي سن هذه القوانين وأخضع لهـا الأرض والشمس ... لا سبيل للأرض أن تظل سابحة هكذا فى الفضاء وتدور حول الشمس بهذه الدقة والاستقرار سوى التسليم بأن لهـا خالقـا قدر مقاديرهـا ودبر أمرهـا وأخضعهـا لطاعته وقوانين رحمته ... ويطلق العلماء على الشمس ومجموعة الكواكب التي تدور حولهـا ومنهـا الأرض ككوكب من كواكبهـا اسم "المجموعة الشمسية" ... وتملك الشمس وحدهـا كتلة تعادل 99.86% من كتلة المجموعة الشمسية .. ولا تتعدى أرضنا أكثر من 0.00003 من كتلة هذه المجموعة .. .. لهذا يأتى أول قسم بها  فى هذه السورة الكريمة ..  وكذلك لترتيبهـا في الخلق ، حيث يعتقد العلماء أن الكواكب التي تدور حول الشمس كانت جزئً منهـا ثم انفصلت عنهـا .. أي أن خلق الشمس جاء قبل خلق كل الكواكب بما فيهـا القمر و الأرض .. وبهذا يمكن أن نعتبر الشمس هي الأم لكل هذه الكواكب، فمنهـا جاء خلقهم عندما انفصوا عنها، ثم هي الحاضنة لهم، يدور الجميع  في كنفهـا ولا تستقر حركتهم فى هذا الكون الفسيح إلا من حولهـا .. كما أثبت العلم أن هناك انطلاقاً مستمراً للطاقة من الشمس نتيجة لتفاعلات نووية تجرى بداخلهـا بصورة مستمرة ومستديمة ويتم من خلالهـا دمج نواتيذرتين من الهيدروجين لتكوين ذرة واحدة من غاز الهليوم الأقل وزنا من ذرتى الهيروجين .. ويتحول فرق هذه الكتلة إلى طاقة حرارية تصدرهـا الشمس .. فتبعث إلى من حولهـا الدفء والقدرة على الحركة ..  ونجد أنه في كل ثانية تتحول ملايين الأطنان من كتلة الشمس إلى طاقة تبعثهـا الشمس باستقرار وثبات واستدامة إلى كواكبهـا ومنهم الأرض .. والضح هو البذل أو العطاء كما يعرفه علماء اللغة .. بذل تهبه وتعطيه الشمس في فترات الضحى فى كل بقعة تنيرها من بقاع الأرض على مدار اليوم الكامل .. كل بقعة لهـا حينها وتوقيتها ونهارها .. وبالقطع فإن ضحى الشمس أو تضحيتهـا تنقص من عمرهـا، وقد قدر العلماء أن عمر الشمس حوالي عشرة آلاف بليون سنة .. وأنهـا قضت نصف هذا العمر تقريباً وباقي النصف الآخر .. هكذا نجد شمسنا في ضحاها أو تضحيتهـا تمنح ما لديهـا من كتلتهـا ومحتواهـا من أجل استمرار حياة و دفء لمن تحضنهم من حولهـا، طاعة وامتثالاً لأمر خالقهـا ومدبر أمرهـا .. وما أوقات الضحى التي ننعم بهـا على الأرض سوى استنزافاً من كتلة الشمس وتكوينهـا وتعجيلاً بنهايتهـا وانتهاء عمرهـا .. هكذا جاء استكمال قسم الخالق في أول هذه السورة الكريمة بالشمس أولاً ثم بضحاها ..  إنها إشارة تثير فى العقل تدبر لا ينتهي في أسرار هذا الكون .. من أوجد هذه الشمس لتحتضن أرضنا وتضحى من أجلهـا بهذا الثبات والاستقرار؟ ثم ما الذي علقهـا في هذا الكون رغم هول حجمهـا وضخامة كتلتهـا .. ثم كيف استقرت التفاعلات داخلها بالرغم من هولهـا بهذا الكمال وهذه الدقة .. من حدد لهـا هذه الكتلة وهذا الحجم وهذه المعدلات وهذه الدرجات بحيث لا تتغير ولا تتبدل على مدى الملايين من السنين والقرون والدهور ... إن فى مجرتنا أكثر من بليون نجم مثل الشمس، ولكن ليس لأي منهـا هذا الثبات والاستقرار مثل ما للشمس من ثبات واستقرار .. فأي نجم يزيد حجمه أو كتلته عما للشمس من حجم وكتلة وكثافة، يقصر عمره ولا يسمح للكواكب أن تستقر حركتها من حوله ، ولكن يضمهـا إليه وتذوب في أحشائه .. وإذا قلت هذه المقادير تتكاسل معدلاته وتتوه الكواكب من حوله .. ولكن الله خص نجمنا أو شمسنا بالمعدلات التى تستقر بهـا معدلاتها وحركات الكواكب من حولها .. إنهـا إرادة خالقهـا الذي ينبهنا إلى أن نتدبر هذا القسم الإلهي الذي يستفتح به هذه السورة المسماة باسمهـا.

ثم نأتي إلى الآية التالية .. توجيه آخر صادر من الخالق كي نتدبر آيات أخرى جاءت في كتابه كي نقرأ بهـا آيات الكون من حولنـا .. فنحن أمة اقرأ الذي كانت أول كلمة أوحى بهـا إلى رسول الله و بهـا بدأ الوحي ينزل من السماء على خاتم المرسلين  ..  نأتي إلى قسم الحق بظاهرة كونية أخرى تلت الشمس وتبعتهـا، حيث يقول الحق "والقمر إذا تلاهـا" .. من الثابت علمياً أن صخور القمر أقدم من صخور الأرض، لهذا فمن المحتمل أن خلق القمر قد جاء تالياً لخلق الشمس، وقبل خلق الأرض .. ولهذا جاء ترتيبه بعد الشمس وقبل الأرض في الآيات .. ثم أن القمر كرة من الصخور المعتمة غير القادرة على أن تشع نوراً من تلقاء نفسهـا .. ولكنه يستمد نوره من ضياء الشمس الساقط عليه، ولهذا يعد هذا الكوكب تابعا أو تالياً للشمس فيما يرسله إلى الأرض من نور .. وهذا ما تنص عليه الآية.

فى حكمة وعلم ربانيين .. والقمر في ترتيب أفلاكه وتحوله من المحاق إلى الهلال ثم إلى البدر ثم رجوعه إلى هذه الدورات مرة كل شهر يعتمد على تداخل حركته حول الأرض مع حركتهما معاً حول الشمس .. فهو تالياً أيضاً للشمس في حركته مع الأرض من حولهـا .. ثم إن القمر بالرغم من حركته المركبة حول الأرض ومع الأرض حول الشمس إلا أنه تبعيته للشمس تبعية كاملة فهو يواجه الشمس بوجهه الثابت الذى لا يتغير على مر الأيام و الشهور و الأعوام .. لهذا فهو تابع أو تال مطيع للشمس فى نوره وحركاته واستقراره .. وهذا الوجود والظهور والنور للقمر مشروط بالتزامه فى تبعيته للشمس إتباعا كاملاً عبرت عنه الآية الكريمة بهذا اللفظ  المشروط "إذا تلاها" .. هذا الشرط ندرك كنهه إذا ما علمنا أن القمر كتلة هائلة من الصخر يبلغ قطرهـا حوالي 3250 كيلومترا أي بلايين حجم أي قمر صناعي و يبعد عن الأرض مسافة 384000 كيلومترا .. أي آلاف المرات مثل بعد أي قمر صناعي .. ويعجز البشر حتى عصرنا هذا عن الاحتفاظ باستقرار حركة هذه الضآلات التي يطلقون عليها الاسم أقمارا سوى فترات قصيرة لا تزيد عن العام الواحد ... بالرغم من متابعتهـا بأجهزة التحكم وتصحيح المسارات وبما فيهـا من أجهزة إمداد للطاقة وأجهزة تصحيح المسارات، وبالرغم من سهولة حركة هذه السفن إذا قيست بحركة القمر .. حيث نرى القمر مانحا لضيائه ويتغير شكله أو تتبدل منازله كل يوم عن اليوم السابق له فى حركة منتظمة و ثابتة تتكرر كل شهر على مدى القرون و الدهور ... كيف استقرت الشمس ثم كيف استقر القمر فى مداراتهما وضيائهما ونورهمـا ... هكذا جاء هذا الإعجاز بهذا القسم لرب العالمين لعرض ظاهرتين كونيتين تدلان على حكمة خالقهما وعلم وقدرة مدبر أمرهمـا .. وهذا بأدق الكلمات وأحكم العبارات لكل ما يمكن أن تدركه عقولنـا وتستوعبه علومنا .. فتوقظ هذه العقول وتتنبه أن لهـا ربا دبر كل شيئ وقدر كل شيء بكل هذه الحكمة وهذه القدرة وهذا العلم  .. رباً عزيزاًَ قديراً حكيماً رحيما أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين نذيراً.

ثم تتوالى الآيات والمعجزات فيوجهنا القسم التالي لرب العالمين عن النهـار الذي يجلى ضياء الشمس وعطائها  .. والنهار في أي بقعة من بقاع الأرض هو تلك الفترة التى تستمتع فيه تلك البقعة بدفء الشمس وسطوعهـا .. والتجلي هو التعاظم حيث يجعل الخالق للشمس شأناً عظيماً في ساعات النهـار عند كل بقعة سطعـت عليها  بما تفيضه الشمس من ضياء يبدد الظلمات كى يمارس الناس نشاطهم و عملهم وحياتهم .. وهذا التجلي للشمس مشروط بما هيأه الخالق للشمس من أسباب حتى يكون لهـا هذا التجلي في ساعات النهـار، ..  فلو جاء خلق الأرض من مواد تمتص أشعة الشمس كلهـا لمـا تجلت الشمس عند سطوعها .. فعندما نرى الرمال صفراء، يجب أن ندرك أن هذه الرمال امتصت جميع أشعة الشمس وألوان الطيف فيهـا كي تعطي الأرض هذا الدفء بما اختزنته داخلها من هذه الطاقة .. ولكنهـا تعكس لأعيننا موجات الشمس التي نراها باللون الأصفر .. وبانعكاس هذه الموجات نرى كل شيء من حولنـا .. وكذلك .. عندما تنظر إلى البحار و تراها زرقاء، بالرغم من شفافية مياهها، فهذا لأن هذه البحار أيضا امتصت من الشمس جميع الألوان وجميع الإشعاعات الحرارية التي سقطت عليها من الشمس لتعطى الدفء لمخلوقاتهـا البحرية ونباتاتهـا المائية، ثم تعكس لنا قدراً بسيطاً من هذه الأشعة كي نرى البحار ونميز المخلوقات بداخلهـا، وهذا القدر تراه أعيننا التي صمم الخالق خلايا شبكيتهـا باللون الأزرق، فنرى البحار ونرى كل شيء حول البحار بما عكسته من أشعة وضياء للشمس .. وإذا رأيت السماء زرقاء أيضا بالرغم من شفافية الهواء، فهذا لأن هناك ذرات بعض الغازات في الهواء لهـا القدرة على امتصاص الأشعة قصيرة الطول مما ترسله الشمس خلالها من أشعة، وهي الأشعة التي تسبب اللون الأزرق فى أعيننـا .. ثم تعاود هذه الذرات إشعاعها مرة أخرى فنرى بهـا السماء زرقاء أو حمراء بحسب ما تمتصه ثم تشعه هذه الذرات ... ولو شاء الخالق أن تمتص هذه الرمال والبحار والسماء كل أشعة الشمس ولا تعكس منهـا شيئاً لرأينا  صحراء قاتمة وبحار سوداء و سماءً مظلمة .. أي كوناً معتماً طوال ساعات النهـار .. أي نهاراً لا يعطى قيمة أو قدراً للشمس .. فلا تظهر هذه السيمفونية من ألوان الطيف من حولك ساعات السحر و الضحى  .. لن تكون هناك هذه العظمة أو التجلي لساعات الشمس  فى نهارها  ..

و هناك نعمة أخرى .. فلو لم يخلق الله أعيننا بحيث ترى في المجال الذي تبعث الشمس ضياؤها من خلاله، أي الموجات الكهرومعناطيسية التي ينحصر طولهـا من 0.3 ميكرون و  حتى 0.7 ميكرون، لأشرقت الشمس وغربت دون أن نشعر بهـا أو يكون لنا نهار يختلف عن الليل .. وهذا ما يحدث للعقارب والخفافيش التي قدر لها الله ألا ترى شيئاً بنور الشمس .. فالنهـار الذي يجلى الشمس و يجعل لهـا قدرا فى عيوننا جاء بتدبير إله قدير ، حدد الأطوال و خصص الصفات و صمم الأعين و دبر الانعكاسات و قدر الامتصاصات و هيأ القوانين و دبر الساعات و أحاط بالظلمات .. و لهذا أتى الحرف "إذا"  قبل كلمة "جلاهـا"  .. فهذا التجلي مرتبط بإرادته وحكمته ورحمته وقدرته هو لا أحد سواه الذى أتاح لهذا النهـار أن يجلى الشمس  ويعظم من شأنهـا ويرفع قدر ضحاهـا وتضحيتهـا ... شمس تشع ما تراه الأعين وأسطح تعكس ما تدركه الأعين وعقل يترجم ما يصل إلى الأعين .. عبرت عنه كلمتين "إذا جلاهـا".

ثم نأتي إلى الآية التالية ويأتي فيهـا ذكر الليل أو ظلام الكون الذي يغشى شمسنا وكل شيء من حولنا  .. و كما نعلم أن في السماء عددا هائلا من النجوم يزيد عن عدد الرمال فى الصحراء .. منهـا ما يزيد في حجمه عن الشمس ملايين المرات .. و لو اقتربت هذه النجوم من شمسنا لابتلعتهـا وكدرت سكون ليلهـا .. ولكن الخالق أبعد كل هذه النجوم عنا أبعاداً تصل إلى ملايين السنين، و احتفظ لسمائنا بظلامهـا .. ظلام يغلف شمسنا وأرضنا، وهذا رحمة منه وفضلاً، فلا شمس غير شمسنا في سمائنا القريبة منا .. وقد جاء الحرف "إذا" أيضا في هذه الآية مشروطاً بما قدره الله للشمس من مواقع أقصا بها عنـا باقي النجوم ..  وقدر لأفلاكهـا أن تبتعد عنـا بهذه المسارات القاصية الأبعاد  .. فنحن نسبح في ليل وظلام ممتد في أبعاد سحيقة قدره لهـا رب العالمين .. وهذا الظلام استطاع أن يراه الآن رواد الفضاء عندما يخرجون بسفنهم خارج مجال الأرض .. حيث يرون الظلام يغلف كل شيء فى هذا الكون من حولنا ... فهو يغلف الشمس و يغلف الأرض و يغلف القمر .. وكل ما يرونه مضيئا هو قرص الشمس سابحا فى الظلام .. ثم وجه الأرض الذى يسطع عليه ضياء الشمس و يتجلى فيه نهـارهـا .. وهذا الظلام الذي يغشى شمسنا مرتبط أيضا بأن الشمس لا يحيط بهـا هواء يعكس أشعتهـا ، وإلا لتبدد هذا الإشعاع قبل أن يصل إلينا عبر ملايين الكيلومترات التى تقطعهـا أشعة الشمس قبـل الوصول إلى الأرض .. إنهـا خصائص المادة التى تفصل بين الأرض و الشمس .. ويطلق عليهـا العلماء إسم الأثير .. ما هو هذا الأثير .. وكيف تنتقل من خلاله إشعة الشمس دون أن تتأثر بهـا وتنير الفضاء من حولهـا فلا تغشاها هذه الظلمة الموحشة لمن يرتاد السماء وينظر إليهـا .. هل هناك مادة اسمها الأثير حقاً أم هي من صنع خيال العلماء .. ولو كان لا وجود لهذه المادة .. فخلال أى شيئ يمكن أن تنتقل أشعة الشمس .. وكيف يفصل بين الأرض و السماء فراغا  ضغطه صفر .. أى فراغ كامل .. وهل يستقيم مع هذا الفراغ الكامل استقرار الأرض والشمس في الكون دون أن ينضمان إلى بعضهمـا البعض .. هكذا نصل إلى أننا كلما اقتربنا من حقيقة يمكن أن تدركهـا عقولنـا آمنا أن هناك الكثير لا نستطيع أن ندركه .. عقولنا محدودة وعلومنا محددة .. فهذا الأثير الذى يفترض العلماء وجوده لا يستطيع أحد أن يتخيله .. ولهذا جاء قسم الحق بهذا الظلام الذى يغشى الشمس وسمائهـا .. ظلام أو ليل ارتبط بقدرته و قوانينه وعلمه وحكمته وأسراره التى لا ولن نعلم عنهـا شيئا .. هكذا جاء قسم الحق المرتبط بإرادته لأنه أرادهـا هكذا فى الحرف "إذا" و فى هذا القسم .. "والليل إذا يغشاهـا" ...

إن من ينظر إلى الآيات السابقة وينظر كيف وضعت كل هذه الحقائق عن ظلمة الكون التي تغشى كل شيء بما فيها الشمس ثم كيف خص الله الأرض بأن تتجلى الشمس في الجزء الذي تضح عليه أشعتهـا في ساعات النهـار، حقائق لم نعلم عنهـا شيئاً إلا بعد أن ذهب رواد الفضاء و صوروا لنا الشمس سابحة في بحر الظلام و لا يبدد هذا الظلام إلا وجه الأرض المضيء .. لقد جاء ذكرهـا بكل البساطة والإعجاز العلمي والبلاغي والموسيقى والجمالي .. إنه إعجاز خالقهـا ومدبر أمرهـا .. لا أحد سواه.

و بعد أن أقسم الحق بالشمس وضحاها وقمرها والظلمة من حولهـا، يقسم الحق بالسماء التي تعلقت فيهـا هذه الشمس بكواكبهـا وأرضهـا وقمرهـا، وتعلقت فيهـا هذه الأبراج بشموخهـا واستقرارهـا ...

ثم يقسم باستفسار رباني: ما بناهـا ؟ .. كيف استطاعت أن تحمل كل هذه الأوزان والأثقال .. كيف تم بناؤهـا لتتحمل وزن الشمس بداخلهـا والذي يصل إلى ملايين و ملايين وزن الأرض .. ثم هذه الأبراج التى تحتل داخلها أبعادا تصل إلى ملايين ملايين السنين الضوئية  .. ما هى القوة وراء بنائهـا بهذا الإبداع والكمال والجمال .. ما هى الحكمة وراء حسابات تماسكهـا بهذا الجمود و الإتقان ... ما هى القدرة وراء بقائهـا كل هذه البلايين من السنين دون أن تنهـار كما تنهار المباني بعد مئة أو ألف عام .. كيف بنيت وكيف استقرت و كيف أبدعت وكيف توافقت ... أسئلة يثيرهـا الحق بهذا الاستفسار المعجز عن أسرار لا يعلمهـا أحد إلا هو .. وبالرغم من ادعاؤنا أننا فى عصر العلم .. إلا إنه لا أحد يعلم منا حقا "ما بناهـا" سوى أنهـا من أسرار الخالق الذى يعلم كيف بناهـا وما بناهـا .. لهذا يقسم الحق بهذا القسم  عن حكمة و قدرة و علم و يقين بمدى عظمة هذا البناء الذى لا يعلم سره إلا هو ..

.. هذا ما كان من أمر القسم بالسماء و ما بناهـا  ...  ثم يأتى إلى قسم تالي .. قسم بالأرض .. هذا الكوكب الذي اختصه الرحمن باحتضان حياة الإنسان عليه .. كوكب لم يتيسر لسواه كل الأسباب والمقومات التي تقيم الحياة عليه ... وزنه وحجمه وطبيعته وكثافته وعناصره ورماله وجباله وهواؤه وماؤه وبحاره وسحبه ومحيطاته وشمسه وقمره وأفلاكه وأفلاك ما حوله وزواياه وأبعاده ودوراته ومساراته ولقد قال العلماء كي نجد الحياة على كوكب آخر فى الكون كله يجب أن تكون له نفس هذه المحددات التى ذكرتهـا ومحددات أخرى غفلت عن ذكرهـا ..  لهذا يأتى قسم الحق بهذه الأرض .. ثم بهذا الاستفسار الإلهى الذي لا نعرف له سبباً .. ما طحاهـا ؟ .. و الطحو هو الدحو أو الإنتشار والانطلاق في هذا الكون حيث تدور الأرض حول نفسهـا مرة واحدة كل أربع وعشرون ساعة وحول شمسهـا مرة كل 365.25 فى دائرة يصل مسارها إلى ملايين الكيلومترات دون توقف أو انقطاع  .. وكلمة أطاح بالشيء أي أطلقه

 

 

ومن كلمة طحاهـا اشتقت آلة الطاحون التى تدور وتدور بانتظام واستقرار .. فتتوزع الأعلاف بالتساوى بين رحاهـا دون اختلاف .. وهكذا في الأرض في طحاها وانطلاقهـا ودورانها حول نفسهـا يتوزع الدفء بين جنباتهـا ويتماثل ضغط الهواء فى غلافهـا والرياح على أطرافهـا والمياه والمجالات في جوفهـا .. ولكن ما هي القوة التي تدفعهـا بحيث تستمر طوال عمرهـا فى هذا الطحو أو الدحو .. من أين جاء العلم الذى قدر هذه الأبعاد وما هو مبعث الحكمة التى قدرت هذه السرعات و الزويا و المعدلات حتى تستقر الحياة على وجه الأرض بدرجات حرارة و ضغوط و اتزان و انسجام و التزام و  كمال وجمال .. كل هذا عبرت عنه الآية فى استفسار بكلمتين  "ما طحاهـا" .. وفى الآية السابقة عن السماء "ما بناهـا" .. لا رد أمامنا سوى إنهـا حكمتك أيهـا الخالق العظيم وقدرتك أيهـا الرب الرحيم .. لهذا جاء قسمك بشيء لا نعلم أسراره وأنت وحدك العليم به .. ومهما حاولت النظريات وافترضت الفرضيات ، فما زال العلم عاجزاً عن أن يتطاول إلى حدودنا التي حددتهـا لعقولنا ومداركنا .. حقاً ما بناهـا وما طحاهـا .. إنهـا مقابلة وانسجام وتسلسل منطقي .. فبدون السماء وبنائهـا وامتدادهـا .. ما كان للأرض انطلقهـا و طحوهـا ..

ثم نأتى إلى القسم الأخير فى سلسلة هذه الاستفسارات.." و نفس و ما سواهـا" ..  إنه قسم بالنفس البشرية.. لغز الألغاز.. ولن أخوض في النفس البشرية وأعماقهـا .. فحديثى ينصب على آيات الحق فى الآفاق .. أما فى أنفسهم .. فلهـا رجالهـا .. ولكن أحاول أن أقف أمام استفسار الحق "و ما سواهـا" .. أنه استفسار عن أسرار حار العلماء فى  معرفتهـا .. هل جبلت النفس البشرية على الشر ... و ما هى النفس و كيف استوت .. الجواب واضح فى الآية التالية  لقسم الحق .. "ونفس وما سواهـا، فألهمها فجورها وتقواها"..  أن الله خلق الأنفس جميعا على الفطرة .. نفساً سوية .. فالنفس البشرية جسد له رغباته ونزعاته وشهواته .. ثم نفخة روحانية لا ندرى كنهها لأنهـأ من روح الله فى جميع البشر منذ أن خلق الله سبحانه و تعالى آدم أبو البشر .. تتكرر فى خلق الأجنة كما أرشدنا رسول الحق .. هكذا يضعنا الحق أيضا بهذا القسم و الآية التالية له أمام سر من الأسرار الذى لا تصل إليه علومنـا .. لكن ما هى الروح التى تسيطر على الجسد و الرغبات و الشهوات .. إنهـا من أمر ربى و لم نؤت حقا من العلم إلا قليلا .. وعرف الحق أن الفجور فى ترك النفس نهبا للجسد وشهواته ومادياته .. والتقوى في تحكم هذه الروح والفكر والعقل في ردع الشهوات والرغبات وتسييرها كما شرع الخالق لها .. ولهذا لدى كل نفس الإلهام والمقدرة على الفجور طاعة لرغبات الجسد وعلى التقوى استجابة لصوت الروح والعقل ..إنهـا الأمانة التى حملهـا الخالق للبشر وترك لهم حرية الاختيار والقرار .. فلديه النجدين .. هكذا جاء تعريف النفس وخلقهـا كما تنص عليه الآية الكريمة فى إعجاز وسهولة ويسر، و لا يقدر على هذا الوصف والسرد والتسلسل  سوى خالق النفس ومدبر وجودهـا وحياتهـا واستمرارهـا على أرضه وتحت شمسه وداخل بنائه وسمائه .. أشياء لا يعلم الإنسان من أسرارهـا شيئا بل لا يدرى من أمر نفسه أو روحه شيئا سوى ما قدر الله له .. آيات جاءت فى تسلسل ربانى حكيم لا يقدر على سرده بهذه الحكمة إلا رب العالمين ، لنعلم أنا لا نعلم شيئا من أسرار أنفسنا وما حولنا.

ثم نأتى إلى جواب قسم كل الآيات السابقة .. القسم بحق الشمس ومعجزاتهـا والسماء وبنائها والأرض وانطلاقها وفي النهاية بالنفس وتسويتهـا .. يأتى الجواب محددا و موضحا و مبينا أين طريق الفلاح وأين طريق الخيبة .. يأتى هذا النص الرباني الواضح أنه أفلح و فاز بالخير وظفر بالهداية ونجا من الشقاء كل إنسان طهر نفسه من السوء و سما بهـا عن الشر واتبع الحق وبعد عن الباطل وأخلص لمن دبر له أمر الشمس و الأرض والسماء والقمر ومنحه هذه النفخة الروحانية فاستجاب لصوت العقل و سار فى طريق الطاعة و الرحمة .. وأنه قد خاب وخسر نفسه وأوقعهـا في المهالك و أوردهـا غضب الخالق كل من انتقص من أمر روحه وأخفاهـا أو دسهـا ودسسهـا في رغبات جسده  أو ألغى عقله وراء شطحاته و سخر نفسه للشر و ارتكاب المعاصى ومخالفة أوامر الله أو ترك الخير فى طاعة الخالق.

  ..  إنه جواب محدد وصريح وكامل ... والدليل أن هذا النص الربانى هو جواب هذا القسم أنه أعطى المثال على تنفيذ هذا الجواب والسنة والدستور والوعد والوعيد  في قصة ثمود ... قتقص الآيات التالية كيف جاءت سنته فى عقاب ثمود التى حادت عن أمر ربهـا وكيف كانت الخيبة لمن أخضعوا أنفسهم  للشهوات والحيود عن أمر ربهم ...  وهذا عندما اتبعت ثمود أشقيائها وطغاتهـا وتركت نداء العقل من نبيها .. فكان العقاب أن استأصلهم الله من الأرض ودمدمها عليهم وأزالهم من الوجود انتظارا لسوء العاقبة فى الآخرة وعذابهـا .. قصة قوم عرفهـم العرب وأهل الكتاب يمرون على مساكنهم  .. قصة حية بينهم كدليل واضح على سنن الله التى لا تتبدل ولا تتغير .. وقد جاء عن زيد بن أرقم أن رسول الله كان يقول هذا الدعاء عند سماع هذه الآيات "اللهم أنى أعوذ بك من العجز والكسل والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر .. اللهم آت نفوسنا تقواها و زكهـا أنت خير من زكاهـا أنت وليهـا و مولاهـا .. اللهم إنى أعوذ بك من قلب لا يخشع و من نفس لا تشبع و علم لا ينفع و دعوة لا يستجاب لهـا .. اللهم آمين و صلى اللهم على حبيبك و رسولك .. و نسألكم الدعاء.

·         المصدر:

موقع موسوعة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم